الحَذَر من الإفتاءِ بغيرِ عِلْمٍ
Listen to the Friday Speech in English here: Caution Against Issuing Fatwa Without Knowledge
الحمدُ لله الذى علَّم الإنسانَ ما لم يعلَمْ* وقيَّضَ لهذا الدين رجالًا يُفتون بعِلم، فإذا لم يَعلَموا لم يُغفِلوا لا أعلَمُ* والصلاة والسلام على سيدِنا محمَّدٍ النبىِّ الأكرم، أُوحِىَ إليه أنه لا إله إلا اللهُ فَاعْلَمْ* وعلى ءاله وصحبه الطاهرين وكلِّ صالح مَعْلَمٍ* وبعد عباد الله اتقوا الله، فائتمروا بأوامره وانتهُوا عن نواهيه. وبعد
فاعلموا إخوة الإيمان أن ربنا جَلَّ وَعَزَّ سائلٌ عبدَه يوم القيامة عن سمعه وبصره وفؤاده. وكذا سائلٌ عبدَه عن كلامِه، ومنه قولُه فى هذه الدنيا هذا يجوز وهذا لا يجوز. قال جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦﴾ الإسراء. أى لا تقلْ قولًا بغير علم. فالفتوَى بغير علم من الكبائر. روى الحافظُ ابنُ عساكرَ أن رسولَ الله ﷺ قال: "مَنْ أَفْتَى بغيرِ علمٍ لَعَنَتْهُ مَلائكةُ السماءِ والأرضِ."
فإذا كان الأمرُ كذلك فما معنَى أن يُفتَى بعلم؟ اعلَموا أن الذى يفتِى إمَّا أن يكون مجتهدا، أو مقلِّدا فى الفُتيا لمجتهد. وإمَّا أن يكون متجرِّئًا على الفتوَى بغير علم.
أما المجتهدُ فهو من له أهليةُ الاجتهاد، أى من يجوز له ذلك بناءً على صفاتٍ معيَّنةٌ وشروطٍ لا بد أن تجتمِعَ فيه. وهى ليست موجودةً فى غالب أهل العصر. قال الإمامُ الشافعىُّ رحمه الله إنه لا يكون الشخصُ أهلا للاجتهاد حتى يكونَ عالمًا بما مضَى قبلَه من السُّنن، وأقوالِ السلف، وإجماعِ الناس، واختلافِ العلماء، حتى لا يخَرِْقَ الإجماعَ؛ وأن يكونَ عالماً بلغة العرب ومعانى ما ورَد فى النصوص الشرعية على وَفق كلام العرب. ويُشترط فى المجتهدِ أن يكونَ حافظًا لآياتِ الأحكامِ وأحاديثِ الأحكامِ مع معرفةِ أسانيدِها ومعرفةِ أحوال رجالِ الإسناد، ومعرفةِ الناسِخِ والمنسوخِ والعامِّ والخاصِّ والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ، مع فِقْهِ النَّفْسِ أى قوةِ الفَهْم والإدراكِ، ومع العَدَالة أى التقوَى ومراعاةِ أخلاق أمثاله من أهل الفضل. فمثلُ هذا إن أفتَى يُفتِى على حسَب اجتهادِه. وأين يوجدُ مَن يجمعُ كلَّ هذه الصفاتِ فى هذا الزمَن؟
وأما إذا لم يكنِ الشخصُ بهذه الصفاتِ فيَعتمدُ على فتوَى إمامٍ مجتهدٍ أى ينقُل قولَ المجتهد فى المسألة. وأما مَن تسوَّر مرتبةً ليس أهلًا لها فصار يُفتِى الناسَ بغير علم، صار يفتى الناسَ على وَفق هواه، فهو خائبٌ خائن يفضحُه اللهُ فى الدنيا قبل الآخرة، كما قال إمامُنا الشافعىُّ: "مَن سَامَ بِنَفْسِهِ فوقَ ما يُساوِى رَدَّهُ اللهُ تعالى إلى قيمتِه." اهـ (المجموع شرح المهذب)
فإياكم والفتوَى بغير علم رجالًا ونساءً. ولا تُغفِلوا لا أدرِى، فإنَّ لا أدرِى نصفُ العِلم. وإن لكم فى رسول الله ﷺ أُسوةً حسنةً. ففى الحديث أن رجلا سأل النبىَّ عن خيرِ البقاع وشرِّها فقال ﷺ: لا أدرِى حتى أسأل جبريلَ. ثم نزَلَ الوحىُ على النبىِّ بأن خيرَ البقاعِ المساجدُ وشرَّ البقاعِ الأسواقُ. رواه البيهقىُّ فى السنن الكبرى.
وإنَّ من أعظم الأسبابِ فى انتشارِ الجهلِ والمفاهيمِ الخاطئةِ بين الناسِ الفتوَى بغير علم، واستفتاءَ الناس لجهلةِ القوم وأدعياءِ العلم. ففى حديث البخارىّ عن رسول الله ﷺ: "«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِن يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ. حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا. فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضَلُّوا وأَضَلُّوا». فلم يجعلِ الرسولُ فى هذا الحديث عُذْرًا للمُفْتِى ولا المُسْتَفْتِى. فأما الأول فلأنه أفتَى بجهلٍ. وأما الثانى فلأنه استفْتَى مَن لا يستحقُّ أن يُستفتَى.
قال الإمامُ النَّوَوِىُّ رحمه الله فى التِّبْيان فى ءاداب حَمَلة القرءان فى فصل فى ءاداب المتعلم: "ولا يتَعلَّمُ إلا ممَّن تكَمَّلتْ أهليَّتُه، وظَهَرتْ ديانتُه، وتحقَّقت معرفتُه، واشتهرت صيانتُه..." فلا يجوز استفتاء غيرِ العالم الثقة.
فطريقُ السلامة أن يُحْرِزَ المرءُ نفسَه أوَّلًا قبل أن يُفتِىَ، وأن يَعرِضها على الجنة وعلى النار. ثم إن كان الجواب على المسألة واضحًا عنده وضوحَ الشمس وسَطَ النهار أجاب، وإلَّا فَلَا. ولا يُفتِى برأيهِ وهواه، فإنَّ منِ اتَّبع الهوَى هوَى.
وكم نجدُ فى هذه الأزمان أناسًا لا يرجِعون إلى الأدلة الشرعية، لا يرجِعون إلى القرءان والحديث، ولا إلى أقوال العلماء المجتهدين فى الإفتاء. وإنما يُفتُون بما تَميل إليه أنفسُهم ويَزِنُون ذلك بموازينَ زيَّنها لهم قُرَناؤُهم من الشياطين. فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حولَ ولاقوةَ إلا بالله.
اللهم احفظُ علينا دينَنا الذى به عصمةُ أمرِنا، واجعلنا من الوقَّافين عند حدود الشريعة، وأحسِنْ خواتيمَنا يا أرحمَ الراحمين. هذا وأستغفِرُ اللهَ لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد فإنى أُوَصِّيكم بتقوَى الله.
واعلموا أننا مسؤولون عما نتكلَّم به مِن خيرٍ أو شرٍّ. فهناك ملَكان كريمان يُسجِّلان ما نقول. ما يفوتُهما شىء من ذلك. قال جَلَّ وَعَزَّ: ﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ ١٨﴾ ق.
عبادَ الله، إن الفتوى بغير علم من كبائر الذنوب. وقد تصل بصاحبها إلى الكفر، كأن كان فى فتواه نسبةُ الظلم إلى الله جَلَّ وَعَزَّ. أعاذنا الله منه وختم لنا على كامل الإيمان.
اللهم اغفِرْ للمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ.
الجمعة مسجد عمر ٨ صَفَر ١٤٤٢ هـ - ٢٥ أيلول ٢٠٢٠ر