اللهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَى عِبَادِهِ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهْ شَىءٌ
Listen to the Friday Speech in English here: Generosity of Allah, Not His Obligation
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونشكرُه. ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا ومِن سيّئاتِ أعمالنا. مَن يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادِىَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له. وأشهد أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعيننا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، صلَّى الله وسلَّمَ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسله.
أما بعد عباد الله، فإنى أُوَصِّيكم ونفسىَ بتقوَى الله العلىِّ القدير القائل فى محكم كتابه: ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦﴾ فُصِّلَتْ.
يقول الله تعالى فى القرءان الكريم فى سورة الأنبياء: ﴿لَا يُسَۡٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسَۡٔلُونَ ٢٣﴾. وعن أبى هريرة رَضِىَ اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله ﷺ: "قارِبوا وسَدِّدُوا. واعلموا أنه لن يَنجُوَ أحدٌ منكم بعمَلِه. قالوا ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يَتَغَمَّدَنِىَ اللهُ برحمةٍ منه وفَضلٍ." رواه مسلم
اعلموا أيها الإخوة أنه قد اتفقت كلمة أهل الحق على أن اللهَ تعالى لا يجب عليه شىءٌ. فهو سبحانه فعَّالٌ لِما يريد. فلا ءامِرَ ولا ناهِىَ له. يحكم فى خلقه بما يريد، ويفعل فى مُلكه ما يشاء. يعطِى من يشاء، ويمنع من يشاء. فكم نرى مِن صالح مُقَتَّرٍ عليه فى الرزق وينهال عليه البلاء كالسيل الجارف، وهو ثابت على طاعة الله. وكم نرى مِن فاسد فى نفسه مفسِدٍ فى الأرض، لا يراعِى حقًّا ولا يفِى بعهد ولا يحفظ ذِمَّةً، مبسوطٌ له فى الرزق يحيا فى نعيم قد اغترَّ بمتاع الدنيا الزائلة وأغراه الشيطان. وكم تسلَّط كثير من الجبابرة على الرقاب فعاثوا بغيا وضلالًا. وكل ذلك لحكمة يعلمها الله الحكيم. فليس لأحد أن يعترض على الله إذا رأى مثلَ ذلك. كما أنه ليس لأحد أن يعترض على الله تعالى إذا رأى إيلامَ الأطفال وذبحَ البهائم التى أحلَّ الله لنا الانتفاعَ بلحومها.
قال صاحبُ العقيدة المرشدة: "وكلُّ نِعمةٍ منه فضلٌ وكلُّ نِقْمةٍ منه عَدْلٌ." وقد دلت الآية والحديث على هذا المعنى. قال أبو حيَّان فى البحر المحيط: "لا يُسأل عن حكمه فى عباده، وهم يُسألون عن أعمالهم." فالناس يُسألون ويحاسَبون لأنهم مأمورون بما فرضه الله عليهم. فليس لأحد أن يعترض على الله. فهو خالقهم ومالكهم على الحقيقة. فيجزيهم بما قدمت أيديهم ولا يكون ظالمًا لهم. إذِ الظُّلمُ هو مخالفةُ أمْرِ ونهْىِ مَن له الأمْرُ والنهْىُ، أو هو التَّصرُّفُ فى مِلْكِ الغَيرِ بغير إذنه. واللهُ مالكُ المُلك يفعل فى ملكه ما يريد. وهو الآمِرُ المطلَقُ والنَّاهِى المطلَقُ. فلا يُتصوَّر فى حقِّه الظُّلمُ. قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦﴾ فصِّلت.
فلا يَصحُّ أن يقالَ يجب على الله كذا، لأن هذا معناه أنه محكوم لغيره. والمحكوميَّةُ تُنَافِى الألوهيةَ. وقد بيَّن النبىُّ ﷺ فى حديثه هذا المعنى وأوضَح لأمَّته المعتقدَ الحقَّ الذى يجب أن يكون مستقرًّا فى النفوس، فقال: "واعلموا أنه لن يَنجُوَ أحدٌ منكم بعمَلِه." أى لا يجب على الله أن يُدخلَ أحدًا الجنةَ ويُزحزحَه عن النار لأجل عمله، ولو كان عملُه عبادةَ ألفِ سنة. بل ولو كان أفضلَ خلقه وهو نبيُّنا محمدٌ ﷺ كما صرَّح بذلك بعد سؤال الصحابة له فقال: "ولا أنا إلا أن يَتَغَمَّدَنِىَ اللهُ" أى يغمُرنِىَ الله "برحمةٍ منه وفَضلٍ." وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة لأجلِّ الأنبياء وسيِّد السادات ﷺ فكيف بمن هم دونه؟
قال النووىُّ فى شرح صحيح مسلم: "مذهب أهلِ السُّنَّة أنه لا يَثبُت فى العقل (أى بمجرده) ثوابٌ ولا عقابٌ ولا إيجابٌ ولا تحريمٌ ولا غيرُها من أنواع التكليف. ولا تثبُت كلُّها إلَّا بالشَّرع. ومذهبُهم أنَّ اللهَ تعالى لا يجب عليه شىء، بل الدنيا والآخرةُ مِلكُه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فلو عذَّب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخَلَهم النارَ كان عدلًا منه. وإذا أكرمهم ونعَّمهم وأدخَلَهم الجنةَ فهو فضلٌ منه. ولو نعَّم الكافرين وأدخَلَهم الجنة كان له ذلك. ولكنه أخبر، وخبرُه صِدقٌ، أنه لا يفعل ذلك. بل يغفر للمؤمنين ويُدخلُهم الجنةَ برحمته، ويُعذِّب الكافرين ويُدخلهم النار عدلًا منه. وفى هذا الحديث دِلالةٌ لأهل الحقِّ أنه لا يستحقُّ أحدٌ (أى ليس حقًّا واجبا على الله) الثوابَ والجنةَ بطاعته." هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على سيِّدِنا محمَّدٍ رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومَن والاه. وبعدُ عبادَ الله اتقوا الله.
ثم إنَّ قولَ الله تعالى فى سورة النحل: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢﴾ وقولَه فى سورة المرسلات: ﴿كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ هَنِيَٓٔۢا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٣﴾ ونحوَهما من الآيات الدَّالَّة على أن الأعمالَ يُدخَل بها الجنة لا تعارضَ بينها وبين الحديث الشريف. بل المعنى أن دخولَ الجنة والتنعُّمَ فيها بالأعمال أى بسببها، هذا من رحمة الله وفضله. فإن اللهَ قد جعل الأعمالَ الصالحةَ سببا للفوز فى الآخرة برحمته لا بإيجاب أحدٍ ذلك عليه.
فإن قيل: إذًا ما معنى قول الله تعالى فى سورة الروم: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾؟ وما معنى ما أخرجه البخارىُّ عن معاذٍ أنَّ النَّبىَّ ﷺ قال: "فإنَّ حقَّ اللهِ على العباد أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحقَّ العبادِ على الله أن لا يُعَذِّبَ مَن لا يشرِكُ به شيئًا (أى وقد عَبَدَه حقَّ عبادتِه)"؟ فالجواب أنَّ الآيةَ والحديثَ وما أشبهَ ذلك من النصوص معناه أن اللهَ وَعَدَ بذلك، واللهُ لا يُخْلِف وعْدَه.
قال النووىُّ فى شرح صحيح مسلم: "قال صاحبُ التحرير: اللهُ سبحانه هو الحقُّ الموجودُ الأزلِىُّ الباقِى الأبدِىُّ. والموتُ والجنةُ والنارُ حقٌّ أى أنها واقعةٌ لا محالةَ. فحقُّ الله على العباد ما يستحقُّه عليهم، وحقُّهم عليه معناه ما هو محقَّقٌ واقعٌ لا محالة."
وليس لأحد أن يقول لازِم على الله كذا أو ألزم اللهُ نفسَه بكذا. فالحذرَ الحذرَ من مثل هذه الألفاظ الشنيعة. فإن الله لا يجب عليه شىءٌ، وهو فعَّالٌ لِمَا يريد.
اللَّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ.
الجمعة فلادلفيا ٤ رجب ١٤٤١ هـ - ٢٨ شباط ٢٠٢٠ر