في الحث على طلب العلم وبيان الفرض العيني من علم الدين
Listen to the Friday Speech in English here: Seeking the Personal Obligatory Religious Knowledge
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا. مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومنْ يُضْلِِلْ فلا هاديَ لَهُ. اللهمّ صلِّ على سيِّدنا محمّد وسلِّمْ عليهِ وعلى ءالِهِ وإخوانِه النّبيِّينَ والمرسلينَ سلامًا كثيرًا.
أما بعدُ، فاتّقوا اللهَ عبادَ اللهِ. اتّقوا اللهَ العزيزَ الحكيمَ القويَّ المتينَ القائل في محكمِ التّنْزيلِ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨﴾ (الحشر). وتمسَّكوا بكتابِ اللهِ العظيمِ الذي جاءَ فيهِ: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ١١﴾ (المجادلة).
إخوة الايمان، لقد رفَع اللهُ جَلَّ وَعَزَّ درجةَ العلماء العاملين. وما ذاك إلا لفضل العلم وشرفِه. فعلم الدِّينِ هوَ حياةُ الإسلامِ. وعلم الدين على قسمين: قسم إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين. وهو الفرض الكفائي من علم الدين. فلا بد أن يكون بين المسلمين من هو عالم بذلك بحيث تحصل الكفاية. فيجب أن يكون في المسلمين من يعرف الأدلة الكافية لإبطال تمويهات الملحدين، والمحرِّفين للدين من المنتسبين إليه وهم ليسوا منه كالمتصوفة والقاديانية والبهائية وغيرهم من أعداء الإسلام.
والقسم الثاني يجب على كل مكلف بعينه أن يتعلمه. وهو الفرض العيني من علم الدين. وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم." أي ومسلمة. رواه البيهقي وحسَّنه الحافظ المِزِّيّ.
وهذا القسم ينقسم أيضا لأقسام. فمنه ضرورياتٌ في الاعتقاد أي ما لا يجوز على المكلف جهله من الأمور المتعلقة بالعقيدة الإسلامية، كتنزيه الله عن الجسمية والشكل واللون والجهة والمكان وغير ذلك من أوصاف المخلوقين، وكمعرفة أن الله أرسل الأنبياءَ مبشرين ومنذرين ليُعلِّموا الناس ما فيه فوزُهم وسعادتُهم في الدنيا والآخرة، وأنه أيدهم بالمعجزات الدالة على نبوتهم، وحفِظَهم من الكفر والكبائر وكل الخسائس.
وكذلك يجب على المكلف معرفةُ ما يميِّز به الكفرَ حتى يجتنبَه، كمعرفة أن تشبيهَ الله بخلقه كُفر مخرِج من الإسلام، وأن تكذيبَ الشرع كُفر، وأن الاستهزاءَ بالدين والاستخفافَ بما هو معظَّم في الشرع كُفر مخرِج من الإسلام.
ومن الفرض العيني أيضًا إخوةَ الإيمان ضرورياتٌ في الأحكام، كمعرفة ما لا بد منه لصحة الصلاة والصيام وغير ذلك من الأحكام.
ومن الفرض العيني أيضا ضرورياتٌ في المعاملات لمن يتعاطاها. فلا يجوز الدخول في معاملة من المعاملات قبل أن يعرف الشخص ما يحل من ذلك وما يحرم. فعلى مريد البيع والشراء أن يتعلم أحكام البيع والشراء، كشروط البيع وأركانه.
وكذا من يريد الإجارة يجب عليه أن يتعلم أحكام ذلك. فمن يريد أن يستأجر بيتا أو سيارة أو عاملا عليه أن يتعلم ما يحتاج إليه من أحكام ذلك. وكذا الأمر في بقية المعاملات.
ويدخل في ذلك أيضًا معرفة أحكام النكاح لمن يريد الزواج وإلا قد يظن ما ليس بنكاح نكاحًا فيتفرع من ذلك مفاسد كثيرة.
ومن الفرض العيني أيضًا أيها الأحبة، معرفة الواجبات القلبية ومعاصي القلب والجوارح كاللسان واليد والأذن والبطن. فإن من لم يعرف الشر قد يقع فيه. قال الله جَلَّ وَعَزَّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦﴾ (التحريم). وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الإمام علي رضي الله عنه أن وقاية النفس والأهل تكون بتعلم الأمور الدينية. فمنْ تعلَّمَ عِلمَ الدِّينِ مَيَّزَ بيْنَ الإيمانِ والكفرِ، وبينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ الحلالِ والحرامِ، وبينَ الحسَنِ والقبيحِ.
أمّا منْ لم يتعلّمْ علمَ الدِّينِ فلا يضمن أنّ صلاتَهُ صحيحةٌ، وأنّ صيامَهُ صحيحٌ، وأنّ زكاته صحيحةٌ. فالتّفقُّهُ في هذا الدِّينِ الحنيفِ هو من خير ما تُنفَقُ فيهِ نفائسُ الأوقاتِ أيْ أفضلِ ما شُغلتْ بهِ الأوقاتُ الطَّيِّبةُ.
يقولُ حبيبُنا وقدوتُنا محمَّدٌ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّين." رواه البخاري ومسلم. أى يجعلُه عالما بالأحكام الشرعية ذا بصيرة فيها بحيث يستخرج المعانىَ الكثيرةَ من الألفاظ القليلة.
ومن أراد أن يتفقه في الدين فعليه أن يسلك طريقًا صحيحًا لطلب العلم الشرعي. فلا يعتمد على مطالعته الفردية دون أن يكون قد حصَّل العلم الشرعي من أهله أي القدرَ الذي يؤهِّله لأن يكون مميزًا كي يفرِّق بين الباطل والصحيح. فإن لم يفعل ذلك واكتفى بالمطالعة فقط، فإنه لا يأمن على نفسه من الوقوع في الفهم السيئ الذي يجره إلى الهلاك بأنواعه. فالواجب على المسلم أن يتلقى علمَ الدين ممن هو أهل لذلك، كما قالَ ابنُ سيرينَ: "إنَّ هذا العِلْمَ دينٌ، فانظروا عمَّنْ تأخذونَ دينَكمْ".
فكونوا يا إخواني حريصين على المبادرة إلى طلب العلم بإخلاص وهمة. وتواصَوْا رحمَكُمُ اللهُ تعالى بدعوةِ النّاسِ إلى مجالس العِلمِ عندَ أهلِ الحقِّ الثِّقاتِ وحثِّهم على طلب العلم ومراجعته. فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدالُّ على الخير كفاعله." رواه الترمذي. أي له أجرٌ يشبه أجرَ فاعلِه.
اللهمّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنا بما علَّمتَنا، وزدْنا عِلْمًا. هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه ومن والاه. أما بعد عباد الله، فإنّي أوصِّيكم ونفسيَ بتقوى الله.
قال الله جَلَّ وَعَزَّ: ﴿فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧﴾ (النحل ٤٣؛ الأنبياء ٧). ورَوَى الطَّبَرانِىُّ قولَه ﷺ: "يا أيها الناسُ تَعَلَّموا، فإنَّ العلمَ بالتعلُّم". ففى الآية والحديث إفادةُ أن طلبَ العلم لا بد أن يكون من أهله الثقاتِ المسنَدين إلى رسول الله ﷺ . فلو قرأ الرجلُ ءالافًا من الكتب دون تلقٍّ لا يُسَمَّى عند أهل العلم متعلِّمًا، بل صَحَفِيًّا أى طالَعَ فى الصُّحُف. قال بعضهم:
ما العلمُ مخزونُ كُتْبٍ لديكَ منها الكثيرُ
لا تحسبنَّ بهذا يومًا فقيهًا تَصيرُ
فللدجاجةِ ريشٌ لكنَّها لا تَطيرُ
اللهم اغفِرْ للمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ.
الجمعة مسجد عمر ١ صَفَر ١٤٤٢ هـ - ١٨ أيلول ٢٠٢٠ر