دليل الحاج والمعتمر والزائر على حسب الطريقة الشرعية الموافقة للسنة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم أما بعد: فإنَّ الله تبارك وتعالى يقول:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} (سورة البقرة /196).
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان".
قال العالم الجليل عبد الله الحداد الحضرمي الملقب بالفقيه المقدم:
"إن من تكلّف الحجّ شوقًا إلى بيت الله وحرصًا على إقامة الفريضة إيمانه أكمل وثوابه أعظم وأجزل، لكن بشرط أن لا يضيّع بسببه شيئًا من الفرائض، وإلا كان ءاثمًا واقعًا في الحرج كمن بنى قصرًا وهدم مصرًا".
وقد جعل الله للحج مزيّة ليست للصلاة ولا للزكاة وهي أنه يكفّر الكبائر والصغائر لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه" رواه البخاري.
والحج فرضٌ بالإجماع على المستطيع، ومن أنكر وجوبه فقد كفر إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نحوه.
وأما تركه مع الاستطاعة واعتقاد وجوبه وفرضيّته فلا يكون كفرًا.
وأما العُمرة فقد اختُلف فيها فذهب بعض الأئمة كالإمام الشافعي إلى فرضيتها، وذهب بعض إلى أنها سنّة ليست فرضًا.
واعلم أن الطاعات صحتها بموافقة الشريعة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم، لذلك من أراد أن يكون حجُّه وسائر طاعاته مقبولة فعليه بالتعلم من أهل المعرفة فإن العبادة مع الجهل لا تنقذ صاحبها، هكذا نقل عن الأكابر لذلك نبيّن فيما يلي كيف يؤدى الحج والعمرة وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يوافق الشرع.
شرائط وجوب الحجّ هي:
-
1 - الإسلام.
ولا يجب الحجّ على المرأة إن لم تجد مَحرمًا يذهب معها أو زوجًا أو نسوة ثقات.
ويجوز لها أن تذهب وحدها لحجّ الفرض، لا لحجّ النفل وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قبور الصالحين.
وللحجّ أركان وواجبات وسنن:
والركن لا يصح الحج بدونه ولا يجبر بالدم.
والواجب يصح الحج بدونه مع المعصية ويجبر بالدم.
والسنة يصح الحج بدونها بغير معصية، ولكن يفوت ثوابها.
كيفية أداء الحج والعمرة
أركان الحج ستة:
(الأول) الإحرام: أي نيّة الدخول في النسك.
على من أراد الحج أن ينوي بقلبه ولو من لبنان أو سوريا أو الأردن أو فلسطين مثلًا أو بعدها ولكن قبل مجاوزة الميقات (ءابار عليّ) وهو بعد المدينة بحوالي خمسة عشر كيلومترًا على طريق مكة؛ هذا بالنسبة لأهل بلاد الشام الذين يسلكون طريق المدينة بالبرّ، أما بالنسبة للذي يسافر من بلده بالطائرة فيحرم في بلده أو في الطائرة قبل مجاوزة الميقات.
من ءاداب الإحرام
يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبله غُسلًا ينوي به غسلَ الإحرام، وهو مستحب لكل مَن يصح منه الإحرام.
ثم يتطيَّب والأحسن أن يتطيب بالمسك المخلوط بماء الورد، وهذا التطيب سواء فيه الرجل والمرأة. ويسنّ الطيب في البدن دون الثوب.
- ويلزم الحاج أن يتجرد عن الملبوس الذي يحرم لبسه فلا يلبس الرجل ما يحيط ببدنه بالخياطة كالقميص والسروال. ويلبس إزارًا ورداءً والأفضل أن يكونا أبيضين جديدين، أو مستعملين نظيفين.
ثم يصلي ركعتين ينوي بهما سنة الإحرام، يقرأ فيهما بعد الفاتحة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} }(سورة الكافرون) و{ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1}} (سورة الإخلاص)، فإذا صلى أحرم بعد ذلك، والإحرام معناه أن ينوي بقلبه فعل الحج أو العمرة أو كليهما على حسب مراده والأفضل في مذهب الشافعي الإفراد أي أن يأتي بالحج أولا ثم يأتي بالعمرة، فمن أراد الحج يقول: نويت الحج وأحرمتُ به لله تعالى. ثم يستحب بعد ذلك أن يلبي فيقول: لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريكَ لك.
والرجال يجهرون بها، أما النساء فلا يجهرن بها.
دخول الحرم ورؤية الكعبة المشرفة
يستحب أن يقول عند بلوغ الحرم: "اللهم هذا حَرَمُكَ وَأَمْنُكَ فحرّمْني على النارِ وَءامِنّي من عذابِكَ يَوْمَ تبعثُ عبادَكَ واجْعلني من أوليائِك وأَهلِ طاعتِكَ". ويستحضرُ من الخشوعِ والخضوعِ في قلبه وجسدِه ما أَمكنه.
فإذا بلغ مكة اغتسل بذي طُوى والسنة أن يدخل مكة من "ثنية كَداء" بفتح الكاف وإذا خرج راجعًا إلى بلده خرج من "ثنية كُدَى" بضم الكاف.
وينبغي أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزحمة ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والتي هو متوجه إليها.
وينبغي لمن يأتي من غير الحرم أن لا يدخل مكة إلا محرمًا بحج أو عمرة، ويستحب إذا وقع بصره على البيت أن يرفع يديه فقد جاء أنه يستجاب دعاء المسلم عند رؤية الكعبة ويقول: "اللهُمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً وزِدْ مَن شرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ ممن حَجَّه أو اعْتَمَرَه تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا" ويضيف إليه: "اللهم أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ فحيِّنا رَبَّنَا بالسلام" ويدعو بما أحب من مهمّات الآخرة والدنيا، وأَهمها سؤال المغفرة، وينبغي أن يتجنب في وقوفه موضعًا يتأذى به المارّون أو غيرهم.
وينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع فهذه عادة الصالحين وعباد الله العارفين لأن رؤية البيت تذكرٌ وتشوقٌ إلى رب البيت.
(ويستحب) أن لا يعرج ساعة دخوله على استئجار بيت أو حط قماش وتغيير ثياب ولا شىء ءاخر قبل الطواف، ويقف بعضُ الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل.
والدخول من باب بني شَيبة مستحب لكل قادم من أي جهة كان بلا خلاف، ويقدم رجله اليمنى في الدخول ويقول: "أعوذُ بالله العظيمِ وبوجهِهِ الكريمِ وسلطانِهِ القديمِ مِن الشيطانِ الرجيم بسمِ الله والحمدُ لله اللهمَّ صلّ على محمد وعلى ءال محمد وسلِّم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتحْ لي أبوابَ رحمتك"، وإذا خرج قدَّم رجله اليسرى وقال هذا إلا أنه يقول: "افتح لي أبواب فضلك"، وهذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد.
(الثاني) الوقوف بعرفة:
ثم إِن الحجاج يتوجهون بعد ذلك إلى عرفة وهو جبل معروف هناك، واستحسن بعض العلماء أن يقول في مسيره: "اللهمَّ إليكَ توجهتُ ولوجهك الكريمِ أردتُ، فاجعلْ ذنبي مغفورًا وحجي مبرورًا وارحمني ولا تخيبْني إنك على كل شىء قدير" ويكثر من التلبية.
قال الماوردي: يستحب أَن يسيروا على طريق ضب ويعودوا على طريق المأزمين اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وليكن عائدًا في طريق غير الذي صدر منها كالعيد.
واعلم أن عرفات ليست من الحرم.
- ووقت الوقوف من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر العيد.
ويستحب الجمع بين الليل والنهار، وشرط بعض الفقهاء ذلك. ويشترط أن يكون الحاج هناك في الوقت المذكور وليس شرطًا أن يكون هناك واقفًا بل لو دخل راكبًا أو نائمًا صح ذلك.
واجب الوقوف بعرفة شيئان:
1 - كونه في وقته المحدود وهو من زوال الشمس يومَ عرفة إلى طلوع الفجر ليلة العيد، فمن حصل بعرفة لحظة لطيفة من هذا الوقت صح وقوفه وأدرك الحج، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لذلك قال عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة".
2 - كونه أهلًا للعبادة وسواءٌ فيه الصبي والنائم وغيرهما، وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما لأنهما ليسا من أهل العبادة.
وأما سنن الوقوف وءادابه فكثيرة:
منها أَن يغتسل بنَمِرة للوقوف، وأن لا يدخل عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين - أي صلاة الظهر والعصر جمعًا.
وأَن يحرص على الوقوف بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف على جبل الرحمة الذي بوسط عرفات وترجيحهم له على غيره من أرض عرفات حتى ربما توهم كثير من جهلتهم أَنه لا يصح الوقوف إلا به فخطأ مخالف للسنة.
والأَفضل أن يكون مستقبلًا للقبلة متطهرًا ساترًا عورته، فلو وقف محدثًا أو جنبًا أو حائضًا أو عليه نجاسة أو مكشوف العورة صح وقوفه وفاتته الفضيلة.
ويستحب أن يكون مفطرًا فلا يصوم، وأن يكون حاضر القلب فارغًا من الأمور الشاغلة عن الدعاء، وينبغي أن يقدم قضاء أشغاله قبل الزوال ويتفرغ بظاهره وباطنه عن جميع العلائق، وينبغي أن لا يقف في طرق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم.
ويستحب أن يكثر من الدعاء والتهليل وقراءة القرءان فهذه وظيفة هذا الموضع المبارك ولا يقصّر في ذلك فهو معظم الحج ومخّه ومطلوبه، ويكثر من هذا الذكر والدعاء قائمًا وقاعدًا ويرفع يديه في الدعاء ولا يجاوز بهما رأسه، ولا يتكلف السجع في الدعاء، ولا بأس بالدعاء المسجوع إذا كان محفوظًا أو قاله دون تكلف ولا فكر فيه بل يجري على لسانه من غير تكلف لترتيبه وإعرابه وغير ذلك مما يشغل قلبه. ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت، وينبغي أن يكثر من التضرع فيه والخشوع فيه وإظهار الضعف والافتقار والذلة، ويلحَّ في الدعاء ولا يستبطىء الإجابة بل يكون قوي الرجاء للإجابة، ويكرر كل دعاء ثلاثًا، ويفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله تعالى والتسبيح والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختمه بمثل ذلك، وليكن متطهرًا متباعدًا عن الحرام والشبه في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه وغير ذلك مما معه فإن هذه من ءاداب جميع الدعوات وليختم دعاءه بآمين.
وليكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وأَفضل ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضلُ الدعاءِ يوم عرفة وأفضلُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كل شىءٍ قدير"، وفي كتاب الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: "اللهمَّ لكَ الحمدُ كالذي تَقُولُ وخيرًا مما نَقُول، اللهمَّ لكَ صلاتي ونُسكي ومحيايَ ومماتي، وإليكَ مآبي ولكَ ربي تُراثي، اللهمَّ إني أعوذُ بك من عذابِ القبرِ ووسوسةِ الصدرِ وَشَتَاتِ الأَمر اللهمَّ إني أعوذ بك من شرّ ما تجىء به الريح".
ويستحب أن يكثر من التلبية رافعًا بها صوته ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأنواع كلها، فتارة يدعو وتارة يهلّل وتارة يكبّر وتارةً يلبي وتارةً يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وتارةً يستغفر، ويدعو منفردًا ومع جماعة، وليدعُ لنفسه ووالديه وأقاربه وشيوخه وأَصحابه وأحبابه وأصدقائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين، وليحذر كل الحذر من التقصير في ذلك فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه بخلاف غيره، ويستحب الإِكثار من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الاعتقاد بالقلب، وأن يكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تُسكب العبرات وتستقال العثرات وترجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله المخلصين وخواصه المقربين وهو أعظم مجامع الدنيا.
وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتقَ الله تعالى فيه عبدًا من النار من يوم عرفة".
وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أَدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا أن الرحمة تنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام".
وعن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه نظر إلى بكاء الناس بعرفة فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل واحد فسألوه دانقًا أكان يردّهم؟ قيل: لا، قال: والله للمغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق".
ومن الأدعية المختارة "اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار، اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفرْ لي مغفرةً من عندك وارحمني إنكَ أَنتَ الغفورُ الرحيمُ. اللهمَّ اغفرْ لي مغفرةً من عندكَ تُصلح بها شأني في الدَّارَين، وارحمني رحمةً منك أسعد بها في الدارَين، وتبْ عليَّ توبةً نصوحًا لا أنكُثها أبدًا، وأَلزمني سبيلَ الاستقامةِ لا أزيغُ عنها أبدًا، اللهمَّ انقلني من ذُلّ المعصيةِ إلى عزّ الطاعة، وأَغْنني بحلالِك عن حرامكَ وبطاعتِكَ عن معصيتِكَ وبفضلِكَ عمن سواك، ونوّر قلبي وقبري وأَعذني من الشَّرّ كلّهِ واجْمعْ ليَ الخيرَ كُلَّهُ.
استودعتُكَ ديني وأمانتي وقلبي وبدَني وخواتيمَ عملي وجميعَ ما أنعمتَ به عليَّ وعلى جميعِ أحبائي والمسلمين أجمعين".
وينبغي أن يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار.
وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ينبغي أن يحترز عن الكلام المباح ما أَمكنه فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني مع أنه يخاف انجراره إلى كلام حرام من غيبة ونحوها.
وينبغي أن يحترز غاية الاحتراز عن احتقار من يراه رث الهيئة أو مقصرًا في شىء غير واجب ويحترز عن انتهار السائل ونحوه.
وليستكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة فقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما العمل في أيام أفضل منه في هذه الأيام" يعني أيام العشرة قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه فلم يرجع بشىء".
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجّ عرفة" فليس معناه أن من حجّ فقد نال الحج بذلك فقط، إنما معناه أن مَن فاته الوقوف فاته الحج ومن أدركه أدرك الحج، والتنبيه إلى إدراكه لقصر وقته.
الأفضل للواقف أن لا يستظلّ بل يبرز للشمس إلا لعذر بأن كان يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده فهذا يستظلّ.
يستحب التكبير من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن تصلي العصر من ءاخر أيام التشريق خلف الفرائض المؤداة والمقضية وخلف النوافل وخلف صلاة الجنازة للحجاج وغيرهم، للمسافر وللحاضر والمصلّي في جماعة ومنفرد، والصحيح والمريض، والتكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. ويكرر هذا ما تيسّر له، وإن زاد زيادة على هذا فلا بأس.
الوصول إلى مزدلفة
بعد الوقوف في عرفة يفيض الحجاج من عرفة إلى مزدلفة. فإذا وصلوا مزدلفةَ باتوا وهذا المبيت نسك، وهل هو واجب أم سنة؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى، ويستحب أَن يغتسل في مزدلفة بالليل للوقوف بالمشعر الحرام وللعيد ولما فيها من الاجتماع.
وليعتنِ الحاضر بها بإحيائها بالعبادة من الصلاة والتلاوة والذكر والدعاء والتضرع، ويتأهب بعد نصف الليل ويأخذ من المزدلفة حصى الجمار لجمرة العقبة يوم النحر وهي سبع حصيات والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شىء، وقال بعض الشافعية: يأخذ منها حصى جمار أيام التشريق أيضًا وهي ثلاث وستون حَصَاةً، وتكون الحصى صغارًا وقدرها قدر حصى الخَذف لا أكبر منه ولا أصغر وهي دون أَنملة نحو حبة الباقلا وقيل نحو النواة، ويكره أن تكون أكبر من ذلك ويكره كسر الحجارة له إلا لعذر بل يلتقطها صغارًا.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما تُقبّل منها رُفع وما لم يتقبل ترك ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين".
فإذا وصلوا قُزَح بضم القاف وفتح الزاي وهو ءاخر المزدلفة وهو جبل صغير وهو المشعر الحرام صعده إن أمكنه وإلا وقف عنده أو تحته، ويقف مستقبل الكعبة فيدعو ويحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويوحده ويكثر من التلبية.
واستحبوا أن يقول: اللهمَّ كما أوقفْتنا فيه وأرَيْتَنَا إياه فوفقنا لذِكركَ كما هديْتَنَا واغفر لنا وارحمْنا كما وعدتَنا بقولك وقولُك الحق:{ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199}} (سورة البقرة).
ويكثر من قول: "اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النار" ويدعو بما أحبَّ، ويختارَ الدعوات الجامعةَ وبالأمور المهمة ويكرر دعواته.
نص الشافعي رحمه الله في كتاب الأم أن من حضر مزدلفة ساعة - أي وقتًا - في النصف الثاني من الليل حصل له المبيت.
إن قلنا المبيت هذا المبيت واجب فمن تركه وجب عليه الدم. وإن قلنا سنة كان الدم على من تركه سُنّة.
ويستحب أن يبقى بمزدلفة حتى يطلع الفجر ويصلي بها.
وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبيت.
مبيت مزدلفة ورمي جمرة العقبة
ومن أراد أن يبيت ليلة الثالث من أيام التشريق في منى يلتقط سبعين حصاة ومن أراد الخروج منها قبل غروب شمس اليوم الثاني يلتقط تسعًا وأربعين.
ويقف مستقبل القبلة فيدعو ويكثر من قول:
"اللَّهمّ ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ويبيت الحجاج في مزدلفة، ثم يخرجون منها فجر يوم العيد إلى منى لرمي جمرة العقبة (وهي الجمرة الكبرى) بسبع حصيات، ويشترط أن يرميها حصاة حصاة بيده في الحوض المخصص لها، ويسن أن يكبّر عند الرجم.
تنبيه: لا يعتبر رميُ الجمار كلها دفعة واحدة إلا رمي حصاة واحدة فليتنبه فإن بعض الناس يجمعون الحصاة في كيس واحد ويرمونها دفعة واحدة.
واعلم أنه لا يصح التوكيل بالرجم إلا للعاجز عن ذلك بنفسه، فمن وكَّل وهو قادر لم يصحّ هذا الرجم.
ويدخل وقت هذا الرمي بمنتصف ليلة العيد. ثم ينحرون الهدي في منى بعد الرمي يوم العيد.
الأعمال المشروعة بمنى يوم العيد
الأعمال المشروعة يوم عيد الأضحى أربعة:
1 - رمي جمرة العقبة
2 - ثم ذبح الهدْي
3 - ثم الحلق أو التقصير
4 - ثم الذهاب إلى مكة لطواف الإفاضة وهي على هذا الترتيب مستحبة.
(الثالث) الطواف بالبيت سبع مرات:
طواف الفرض الذي لا بدّ منه لصحة الحج هو طواف الإفاضة.
(واعلم) أن في الحج ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإِفاضة، وطواف الوداع. ومحل طواف الإِفاضة بعد الوقوف ونصفِ ليلة النحر أي ليلة عيد الأضحى، وطواف الوداع عند إرادة السفر من مكة بعد قضاء جميع المناسك. واعلم أن طواف القدوم سنة ليس بواجب.
(كيفية الطواف) إذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود. ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه بشرط أن لا يؤذي أحدًا بالمزاحمة فيستلمه ثم يقبله من غير صوت يظهر في القُبلة ويسجد عليه ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثًا، ثم يبتدئ الطواف ويقطع التلبية في الطواف. ويستحب أن يضطبع([1]) مع دخوله في الطواف فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس، وكيفية الطواف أن يحاذي بجميعه جميع الحجر الأسود فلا يصح طوافه حتى يمر بجميع بدنه على الحجر الأسود.
(ويستحب في الطواف) الرَّمَل([2]) بفتح الراء والميم وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخُطَا دون الوثوب والعَدْوِ ويقال له الخَبَب، والرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأُول، ويسن المشي على الهيْنة في الأربع الأخيرة.
ويستحب استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام اليماني وتقبيل اليد بعده عند محاذاتهما في كل طوفة وهو في الأوتار ءاكد لأنهما أفضل، فإن منعته زحمة من التقبيل اقتصر على الاستلام، فإن لم يمكنه أشار إليه بيده أو بشىء في يده ثم قبّل ما أشار به ولا يشير بالفم إلى التقبيل. ولا يستحب للنساء استلام ولا تقبيل إلا عند خلو المطاف.
الأذكار المستحبة في الطواف
يستحب أن يقول عند استلام الحجر الأسود أوَّلا وعند ابتداء الطواف أيضًا: "بسمِ الله، الله أكبرُ اللهمَّ إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدِك واتّباعًا لسنةِ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم" ويأتي بهذا الدعاء عند محاذاة الحجر الأَسود في كل طوفة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى ويقول: "الله أَكبرُ ولا إله إِلا الله"، قال: "وإن ذكر الله تعالى فصلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحسن".
ويستحب أن يقول في رَمله: "اللهمَّ اجْعَلْه حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا"، ويقول في الأَربع الأخيرة: "اللهم اغفر وارحمْ واعفُ عما تعلم وأنتَ الأعزُّ الأكرم، اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار"، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "هذا أحب ما يقال في الطواف"، قال: "وأُحبُّ أن يقال في كله". قال بعض الشافعية: وهو فيما بين الركن اليماني والأَسود ءاكد. ويدعو فيما بين طوفاته بما أحبَّ من دينٍ ودنيا ولمن أحب وللمسلمين عامة، ولو دعا واحدٌ وأمَّن جماعة فحسن.
وينبغي الاجتهاد في ذلك الموطن الشريف، وقد جاء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال في رسالته المشهورة إلى أهل مكة: "إن الدعاء يستجاب هناك في خمسة عشر موضعًا: في الطواف، وعند الملتَزَم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وعند الجمرات الثلاث". ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه يستحب قراءة القرءان في طوافه لأنه موضع ذكر والقرءان أعظم الذكر.
وليكثرْ في طوافه بين الحجر الأَسود إلى أن يصل إلى الركن اليماني من قول: "سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر".
والموالاة بين الطواف سنة مؤكدة ليست بواجبة، ويستحب أن يكون في طوافه خاضعًا متخشعًا بظاهره وباطنه في حركته ونظره وهيئته، ويكره له الأكل والشرب في الطواف وكراهة الشرب أخف ولو فعلهما لم يبطل طوافه، ويكره أن يضع يده على فمه كما يكره ذلك في الصلاة إلا أن يحتاج إليه أو يتثاءب، فإن السنة وضع اليد على الفم عند التثاؤب، ويستحب أن لا يتكلم فيه بغير ذكر إلا كلامًا هو محبوب كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو لفائدة علم، ويكره أن يدافع البول أو الغائط أو الريح أو وهو شديد التوقان إلى الأكل وما في معنى ذلك، كما تكره الصلاة في هذه الأحوال، ويجب أن يصون نظره عما لا يحل له النظر إليه.
فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف وهما سنة مؤكدة على الأصح، والسنة أن يصليهما خلف المقام، فإن لم يصلهما خلف المقام لزحمة أو غيرها صلاهما في الحِجر، فإن لم يفعل ففي المسجد، وإلا ففي الحرم، وإلا فخارج الحرم. ولا يتعين لهما مكان ولا زمان بل يجوز أن يصليهما بعد رجوعه إلى وطنه.
ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى منها بعد الفاتحة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1}}(سورة الكافرون)، وفي الثانية { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1}}(سورة الإخلاص) ويجهر بالقراءة إن صلاهما ليلًا وسُيرَّ إن كان نهارًا، ويستحب أن يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمور الآخرة والدنيا.
ولا يطيل الجلوس إن كان زحمة ويقتصر على الدعاء الوارد فقط ليفرغ المكان لغيره.
كذلك عند الوقوف للدعاء عند الملتزم وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود إذا كان الوقت زحمة يقف قليلًا يدعو بدعاء وارد ثم يخلي المكان لغيره.
فإذا فرغ من ركعتي الطواف فالسنة أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا إلى المسعى فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الماوردي في كتابه الحاوي أنه إذا استلم الحَجَر استحب أن يأتي الملتَزَم ويدعو فيه ويدخل الحِجْر فيدعو فيه تحت الميزاب.
تنبيه: يحرم ما يفعله بعض الناس وقت الحج والزحمة من عمل حلقة قرب المقام ليصلي شخص وسطها حاجرين المكان عن غيره.
(الرابع) السعي بين الصفا والمروة سبع مرات:
السنة أن يخرج من باب الصفا ويأتي سفح جبل الصفا فيصعد قدر قامة حتى يرى البيت وهو يتراءى له من باب المسجد باب الصفا لا من فوق جدار المسجد بخلاف المروة فإِذا صعد استقبل الكعبة وهلل وكبر ويقول: "الله أكبرُ الله أكبر الله أكبرُ ولله الحمدُ، الله أكبر على ما هدانا والحمدُ لله على ما أَوْلانا، لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويميتُ بيدهِ الخيرُ وهوَ على كلّ شىءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أنْجَزَ وَعْدَهُ ونَصَرَ عبدَه وهزمَ الأحزابَ وحده، لا إله إلا الله ولا نعبدُ إلا إياه، مخلصينَ له الدينَ ولو كرهَ الكافرون"، ثم يدعو بما أحبَّ من أمر الدين والدنيا، وحسنٌ أن يقول: "اللهمَّ إنك قلتَ وقولُك الحقُّ: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {60}}(سورة غافر) وإنكَ لا تُخلفُ الميعاد، وإني أسألك كما هديتني للإِسلام أن لا تَنزِعَهُ مني وأن تتوفاني مسلمًا" ثم يضم إليه ما شاء من الدعاء ولا يلبي.
ولا يصح السعي إلا بعد طوافٍ صحيحٍ.
ويقول أثناء سعيه: "ربّ اغفر وارحمْ وتجاوزْ عما تعلَم، إنكَ أنتَ الأعزُّ الأكرم".
ثم ينزل من الصفا متوجهًا إلى المروة فيمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأَخضر المعلق بفناء المسجد على يساره قدر ستة أذرع، ثم يسعى سعيًا شديدًا حتى يتوسط بين الميلين الأَخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بدار العباس رضي الله عنه، ثم يترك شدة السعي ويمشي على عادته حتى يصل المروة فيصعد عليها حتى يظهر له البيت إن ظهر فيأتي بالذكر والدعاء كما فعل على الصفا فهذه مرة من سعيه، ثم يعود من المروة إلى الصفا فيمشي في موضع مشيه في مجيئه ويسعى في موضع سعيه فإذا وصل الصفا صعده وفعل كما فعل أوَّلا وهذه مرة ثانية من سعيه، ثم يعود إلى المروة فيفعل كما فعل أوَّلا ثم يعود إلى الصفا وهكذا حتى يكمل سبع مرات يبدأ بالصفا ويختم بالمروة.
ويستحب أن يسعى على طهارة ساترًا عورته، فلو سعى مكشوف العورة أو محدثًا أو جنبًا أو حائضًا أو عليه نجاسة صح سعيه. ويستحب أن يكون سعيه في موضع السعي الذي سبق بيانه سعيًا شديدًا فوق الرَّمَل فإن ترك ذلك فاتته الفضيلة، وأما المرأة فالأصح أنها لا تسرع في المشي أصلًا بل تمشي على هينتها بكل حال. وإذا كثرت الزحمة فينبغي أن يتحفظ من إيذاء الناس، وترك هيئة السعي أهون من إيذاء المسلم أو من تعرض نفسه إلى الأذى، وإذا عجز عن السعي الشديد في موضعه للزحمة تشبه في حركته بالساعي.
ويستحب الموالاة بين مرات السعي فلو فرّق بلا عذر تفريقًا كثيرًا لم يضرَّ على الصحيح.
قال الشيخ أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى: "رأيت الناس إذا فرغوا من السعي صلوا ركعتين على المروة وذلك حسن وزيادة طاعة لكن لم يثبت ذلك عن رسول الله". ثم إذا خرجوا يوم التروية إلى منى فالسنة أن يصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيتوا بها ويصلوا بها الصبح، وكل ذلك مسنون ليس بنسك واجب فلو لم يبيتوا بها أصلًا ولم يدخلوها فلا شىء عليهم لكن فاتتهم السنة.
• فائدة: اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى يوم التروية فإنهم يَتَرَوَّوْنَ معهم الماء من مكة، واليوم التاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القَرّ بفتح القاف وتشديد الراء لأنهم يقرون فيه بمنى، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.
تنبيه: لا يسمى يوم الجمعة إذا صادف الوقوف فيه الحج الأكبر، إنما الحج الأكبر هو يوم عيد الأضحى لأن الحاج يكون أنهى معظم أعمال الحج.
(الخامس) الحلق أو التقصير:
بعد ذلك يحلق الرجل أو يقصّر، وإن شاء قدم هذا الركن على الرمي، ووقت إجزاء الحلق أو التقصير من النصف الثاني من ليلة العيد، وقبل ذلك حرام أن يزيل الحاجّ والحاجّة شعرة واحدة من بدنهما.
وأقل واجب الحلق ثلاث شعرات حلقًا أو تقصيرًا أو بغير ذلك من شعر الرأس، ومن لا شعر على رأسه يستحب أن يمرّ الموسى عليه.
والحلق للرجل أفضل من التقصير بالمقصّ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمّ اغفرْ للمحلّقين قالوا: والمقصّرين يا رسول الله، قال: اللَّهمّ اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، ثم قال: وللمقصرين" رواه البخاري.
والسّنّة أن يكون الحلق أو التقصير يوم النَّحر، والأفضل بعد طلوع الشمس وقبل طواف الركن والسعي، ويسنّ حلق جميعه للذكر، أما المرأة فتقصّر ولا تحلق والأفضل أن تأخذ شيئًا من الشعر من جميع جوانب الرأس.
(السادس) الترتيب في معظم الأركان.
يشترط تقدم الإحرام على جميع الأركان، ويشترط تقدم الوقوف على طواف الإفاضة والحلق.
ويشترط أن يكون السعي بعد طواف صحيح، فلو سعى بعد طواف القدوم صح سعيه. ولا يجب الترتيب بين الطواف والحلق.
• فائدة: اعلم أنه يوجد في الحج تحلّلان:
أ - تحلل أول وهو بالإتيان باثنين من ثلاثة من:
1 - طواف الإفاضة 2 - ورمي جمرة العقبة 3 - والحلق أو التقصير، والثلاثة يدخل وقتها بعد منتصف ليلة العيد ويحل بالتحلل الأول ما حرم على المحرم سوى أمور النساء.
ب - وتحلل ثان وهو بالإتيان بالأمور الثلاثة ويحل له بذلك ما حرم بالإحرام.
وواجبات الحج منها
1 - الإحرام من الميقات.
2 - والجمع بين الليل والنهار بعرفة على قول.
3 - والمبيت بمزدلفة على قول.
4 - ومنى على قول.
5 - ورمي الجمرات الثلاث.
ويدخل وقت الرمي والحلق والطواف بنصف الليل من ليلة العيد ويبقى الرمي إلى غروب الشمس من ءاخر أيام التشريق، وأما الحلق والطواف فلا ءاخر لوقتهما بل يبقيان ما دام حيًّا ولو طال سنين متكاثرة، وأما وقت الاختيار لهذه الأعمال فيبدأ فيه بجمرة العقبة على ترتيب الأفضل، والسنة أن يرميها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قدرَ رمح.
وأما الصحيح المختار في كيفية وقوفه ليرميها أَن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل العقبة ثم يرمي، وقيل يقف مستقبل الجمرة مستدبر الكعبة.
والسنّة أن يرفع يده في رميها حتى يُرَى بياض إبطه، ولا ترفع المرأة.
والسنة أن يقطع التلبية بأول حصاة يرميها ويكبر بدل التلبية لأنه بالرمي يشرع. والمشروع مع الرمي أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيرًا والحمدُ لله كثيرًا وسبحانَ الله بُكرة وأصيلا، لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ يحيي ويميتُ وهو على كل شىءٍ قدير، لا إله إلا الله ولا نعبدُ إلا إياهُ مخلصينَ له الدينَ ولو كرِهَ الكافرون، لا إله إلا الله وحده صَدَقَ وعده وَنَصَرَ عبده وهزمَ الأحزابَ وحده، لا إله إلا الله والله أكبر.
ويجب أن يرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات، فيأخذ إحدى وعشرين حصاة فيأتي الجمرة الأُولى وهي تلي مسجد الخَيف وهي أولهن من جهة عرفات وهي في نفس الطريق الجادة فيأتيها من أسفل منى ويصعد إليها ويعلوها حتى يكون ما عن يساره أَقل مما عن يمينه، ويستقبل القبلة ثم يرميها بسبع حصيات واحدة واحدة، ويكبر عقب كل حصاة كما سبق في رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يتقدم عنها وينحرف قليلًا ويجعلها في قفاه ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى به ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخشوع الجوارح ويمكث كذلك قدرَ سورة البقرة.
ثم يأتي الجمرة الثانية وهي الوسطى ويصنع فيها كما صنع في الأولى ويقف للدعاء كما وقف في الأُولى إِلا أنه لا يتقدم عن يساره كما فعل في الأُولى لأنه لا يمكنه ذلك فيها بل يتركها بيمين ويقف في بطن المسيل منقطعًا عن أن يصيبه الحصى.
ثم يأتي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر فيرميها من بطن الوادي.
ويستحب أن يغتسل كل يوم للرمي.
ولا يصح الرمي في هذه الأيام إلا بعد زوال الشمس وهو ميلها عن وسط السماء لجهة المغرب.
وأما الموالاة بين رمي الجمرات ورميات الجمرة الواحدة فهو سنة على الأصح، وإذا ترك شيئًا من الرمي نهارًا فالأصح أنه يتداركه فيرميه ليلًا أو في ما بقي من أَيام التشريق سواء تركه عمدًا أو سهوًا.
واعلم بأنه يفوت كل الرمي بأنواعه بخروج أيام التشريق من غير رمي ولا يؤدى شىء منه بعدها لا أداء ولا قضاء، ومتى تدارك فرمى في أيام التشريق فائتها أو فائت يوم النحر فلا دم عليه. ويستحب له الإِكثار من الصلاة في مسجد الخيْف، وهو في منى.
ويسقط رمي اليوم الثالث عمن نفر النفر الأَول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق وهذا النفر وإن كان جائزًا فالتأخير إلى اليوم الثالث أفضل، ومن أراد النفر الأَول نفر قبل غروب الشمس ولا يرمي في اليوم الثالث.
واعلم أن من واجبات الحج فقط دون العمرة مبيت الحاج أي مروره في شىء من أرض مزدلفة بعد نصف ليلة النحر أي عيد الأضحى ولو لحظة ولو نائمًا ويسقط هذا عمن له عذر كأهل السقاية والرعي. وللإمام الشافعي قول بأن المبيت بمزدلفة سنة ليس واجبًا، فعلى هذا القول تاركه ليس عليه إثم ولا دم. ويجوز العمل به.
ومن واجبات الحج المبيت بمنى وليس المراد جميع الليل بل المراد أن يكون هناك معظم الليل أي ليلة اليوم الأول من أيام التشريق والثاني لمن خرج من منى في اليوم الثاني قبل الغروب. أما من لم يخرج من منى فأدركه غروب ليلة ثالث التشريق وهو بمنى وجب عليه المبيت بها أو يشترط أن يكون هذا النفْر أي مغادرة منى بعد الزوال وقبل المغرب، ويسقط وجوب هذا المبيت عن أهل السقاية أي الذين يشتغلون بالسقاية وعن أهل الرعي أي الذين لهم إبل يرعونها مثلًا.
وهذا المبيت فيه قول للإمام الشافعي أنه سنة ليس واجبًا فعلى قولِ عدم الوجوب لا إثم على من ترك المبيت ولا دم.
6 - وطواف الوداع على قول.
فائدة: يستحب لمن جلس في المسجد الحرام أن يكون وجهه إلى الكعبة فيقرب منها وينظر إليها إيمانًا واحتسابًا، فإن النظر إليها عبادة، فقد جاءت ءاثار كثيرة في فضل النظر إليها.
فائدة أخرى: ينبغي للحاج أن يغتنم بعد قضاء مناسكه مدة مُقامه بمكة ويستكثر من الاعتمار ومن الطواف في المسجد الحرام فإنه أفضل مساجد الأرض، والصلاة فيه أفضل منها في غيره من الأرض جميعها، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجدَ الحرام".
وصح عن عمر صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
كيفية أداء العمرة
العمرة فرض على قول مرة واحدة في العمر ولكن يستحب الإكثار منها ولا سيما في رمضان. ومن حج فأراد أن يعتمر يخرج إلى خارج الحرم كمنطقة التنعيم حيث مسجد السيدة عائشة وينوي العمرة بقلبه، فيقول: "نويتُ العمرة وأحرمتُ بها لله تعالى"، ويستحب بعد ذلك أن يلبي. ثم يدخل مكة فيطوف سبعًا ويسعى بعده سبعًا ثمّ يحلق الرجل أو يقصر والمرأة تقصر.
والترتيب هنا في جميع أركان العمرة واجب أي يبتدئ بالإحرام ثم الطواف ثم السعي ثمّ الحلق أو التقصير.
وبهذا تنتهي جميع أعمال العمرة اللازمة.
ما يحرم على المحرم بالحج أو بالعمرة
يحرم على المحرم ستر رأسه ولبس محيط بخياطة كالسّروال والقميص. ويحرم على المحرمة ستر وجهها وقُفاز، ويحرم عليهما بعد الإحرام التطيب في ملبوس أو بدن ودهن الرأس أو اللحية بالزيت أو غيره من الأدهان ولو غير مطيب، ويحرم عليهما قصّ ظفرٍ، ويحرم إزالة شعر من الرأس وغيره.
ويجوز للرجل لبس النعل الذي لا يغطي كل أصابع الرجل، وكذلك الحذاء إذا كانت بعض الأصابع مكشوفة، وشىء من العقب مكشوفًا، ولو كان ذلك من الجلد المخيط، فإن المحرم ليس كل مخيط بل ما يحيط بالخياطة كالحذاء المغطى من كل الجوانب والجورب.
ويجوز وضع النظارة، والخاتم، والساعة، والحزام الذي يشدّ به الوسط ولو كان فيه خياطة.
ويجوز للمحرم أن يغسل رأسه بالصابون غير المطيب، ويحرمُ عليهما جماع ومقدماته، وكذلك يحرم عقد النكاح ولا يصحّ، ويحرم على المحرم الاصطياد أي التعرض لصيد مأكول بريّ وحشيّ سواء كان طيرًا أو غيره، ويحرم صيدُ الحرمين (حرمي مكة والمدينة) وقطع نباتهما على محرم وحلال.
فمن فعل شيئًا من هذه المحرمات فعليه الإثم والفدية إلا عقد النكاح فلا فدية فيه لأنه لا يصح.
والفدية في الطيب والدهن ولبس المحيط وإزالة الشعر والظفر ومقدمات الجماع (قبل التحلل الأول) شاة توزع على فقراء الحرم، أو التصدق بثلاثة ءاصع لستة مساكين من مساكين الحرم، أو صوم ثلاثة أيّام.
• التحلل الأول يكون بفعل اثنين من: طواف الإفاضة، والحلق أو التقصير، ورمي جمرة العقبة، والتحلل الثاني يكون بإتمام الثلاثة.
والجماع قبل التحلل الأول يفسد الحج، ويلزم إتمامه والقضاء فورًا (أي في السنة القابلة) هذا إن كان عامدًا غير ناسٍ ولا جاهلٍ لكونه بعيدًا عن العلماء وتلزمه الكفارة، وهي: بدنة، فإن لم يجد فبقرة فسبع من الشياه، فإن لم يستطع قوَّم البدنة واشترى بقيمتها طعامًا وتصدق به، فإن لم يستطع صام عن كل مد يومًا.
ومن ترك الإحرام من الميقات أو رمي الجمرات الثلاث فعليه ذبح شاة فإن عجز صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
فوائد في زيارة قبر سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم وعظَّم وما يتعلق بذلك
اعلم أن لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء خمسة: المدينة وطابة وطيبة والدار ويثرب قال الله تعالى:{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ {120}} الآية (سورة التوبة). وثبت في صحيح مسلم عن جابر ابن سمرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى سمى المدينة طابة" وسميت طابة وطيبة لخلوصها من الشرك وطهارتها منه، وقيل لطيب ساكنيها لأمنهم ودعتهم، وقيل لطيب العيش بها، وأما تسميتها الدار فللاستقرار بها لأَمنها، وأما المدينة فقد قال كثيرون من أهل اللغة وغيرهم منهم قطرب وابن فارس هي من دان أي أطاع. والدين الطاعة سميت بذلك لأنه يطاع الله تعالى فيها وقيل غير ذلك والله أَعْلَمُ. وفي الباب مسائل:
(الأُولى) إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة تربته صلى الله عليه وسلم فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي، وقد روى البزار والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" الحديث صححه السبكي ووافقه الحافظ السيوطي.
(الثانية) يستحب للزائر أن ينوي مع زيارته صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله تعالى بالمسافرة إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه.
(الثالثة) يستحب إذا توجه إلى زيارته صلى الله عليه وسلم أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه في طريقه فإذا وقع بصره على أشجار المدينة وحرمها وما يعرف بها زاد من الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى أن ينفعه بزيارته صلى الله عليه وسلم وأن يتقبلها منه.
(الرابعة) يستحب أن يغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه.
(الخامسة) يستحضر في قلبه حينئذ شرف المدينة وأنها أفضل الدنيا بعد مكة عند بعض العلماء وعند بعضهم أفضلها على الإطلاق، وأن الذي شرفت به صلى الله عليه وسلم خير الخلائق أجمعين. وليكن من أول قدومه إلى أن يرجع مستشعرًا تعظيمه ممتلىء القلب من هيبته كأنه يراه.
(السادسة) إذا وصل إلى باب مسجده صلى الله عليه وسلم فليقل ما قدَّمنا في دخول المسجد الحرام ويقدم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج وكذا يفعل في جميع المساجد، ويدخل فيقصد الروضة الكريمة وهي ما بين المنبر والقبر فيصلي تحية المسجد بجنب المنبر، وفي إِحياء علوم الدين أَنه يجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن.
ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وسع المسجد بعده صلى الله عليه وسلم، ففي كتاب المدينة أَن ذرع ما بين المنبر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه حتى توفي أربع عشرة ذراعًا وشبرًا وأن ذرع ما بين المنبر والقبر ثلاث وخمسون ذراعًا وشبر.
(السابعة) إذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد شكر الله تعالى على هذه النعمة ويسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، ثم يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر.
ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع، وذكر بعضهم أنه يستقبل جدار القبر على نحو أربعة أَذرع من السارية التي عند رأس القبر في زاوية جداره ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ويقف ناظرًا إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر غاض الطرف في مقام الهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا مستحضرًا في قلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته، ثم يسلم ولا يرفع صوته بل يقتصد فيقول: "السلامُ عليك يا رسول الله، السلامُ عليك يا نبي الله، السلامُ عليك يا خِيرة الله، السلامُ عليك يا خَيْر خلقِ الله، السلامُ عليك يا حبيبَ الله، السلامُ عليك يا نذير، السلامُ عليك يا بشير، السلامُ عليك يا طاهر، السلامُ عليك يا نبيَّ الرحمة، السلامُ عليك يا نبيَّ الأمة، السلامُ عليك يا أبا القاسم، السلامُ عليك يا رسولَ ربّ العالمين، السلامُ عليكَ يا سيدَ المرسلين وخاتمَ النبيين، السلامُ عليك يا خَيْرَ الخلائق أجمعين، السلامُ عليك يا قائد الغُرّ المُحَجَّلِينَ، السلامُ عليك وعلى ءالك وأهلِ بيتك وأزواجِك وذريتِك وأصحابِك أجمعين، السلامُ عليك وعلى سائر الأنبياءِ وجميع عبادِ الله الصالحين، جزاك الله يا رسولَ الله عنا أفضلَ ما جزى نبيًّا ورسولا عن أمتهِ وصلى الله عليكَ كلما ذكركَ ذاكر وغفلَ عن ذكرك غافلٌ أفضلَ وأكملَ وأطيبَ ما صلى على أحد من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسولُهُ وخِيرتُهُ من خلقهِ، وأشهدُ أنك قد بلّغتَ الرسالةَ وأدّيتَ الأمانةَ ونصحتَ الأمةَ وجاهدتَ في الله حقَّ جهاده، اللهم وءاته الوسيلةَ والفضيلةَ وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته، وءاتِهِ نهايةَ ما ينبغي أن يسألَه السائلون، اللهمَّ صلّ على محمّد عبدِك ورسولِك النبيّ الأُمّي وعلى ءال محمد وأزواجِه وذريته كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى ءال إبراهيم، وباركْ على محمد النبيّ الأُمي وعلى ءال محمد وأزواجِه وذريتِهِ كما باركت على إبراهيمَ وعلى ءال إبراهيمَ في العالمين إنكَ حميدٌ مجيد"، ومن عجز عن حفظ هذا أو ضاق وقته عنه اقتصر على بعضه، وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه صفة القبور الكريمة
جهة القِبلة
ثم يرجع إلى موقفه الأَول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به بحق نفسه ويتشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، فقد ثبت أن الرسول علم الصحابة أن يتوسلوا به إلى الله وهذا من القُرَب إلى الله.
ومن أَحسن ما يقول ما رواه كثير من العلماء عن العتبيّ مستحسنين له قال: كنت جالسًا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابيّ فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعتُ الله يقول:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا {64}} (سورة النساء) وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي ثم أَنشأ يقول:
يا خيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقاع أعظُمُهُ فطابَ من طيبهن القاعُ والأكمُ
نفسي فداءٌ لقبـرٍ أَنتَ ساكنُهُ فيه العفافُ وفيه الـجودُ والكرمُ
أَنت الشفيعُ الذي تُرْجَى شفاعَتُهُ عند الصراط إذا مـَا زَلَّتِ القَدَمُ
وصاحباكَ فلا أنســاهُمَا أبدًا مِنّي السلامُ عليكمُ ما جرى القلمُ
قال: ثم انصرف فغلبتني عيناي فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبيُّ الْحَقِ الأعرابيّ وبشّرْه أنَّ الله تعالى قد غفر له.
ثم يأتي الروضةَ فيكثر فيها من الدعاء والصلاة فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي"، ويقف عند المنبر ويدعو.
وقد جاء عن ابن عمر وغيره من السلف رضي الله عنهم الاقتصار جدًّا فكان ابن عمر يقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أَبا بكر، السلام عليك يا أَبتاه"، وعن مالك رحمه الله تعالى أَنه كان يقول: "السلام عليك أَيها النبي ورحمة الله وبركاته".
ثم إن كان قد أَوصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان ابن فلان، أو فلان ابن فلان يسلم عليك يا رسول الله أو نحو هذا من العبارات، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه لأن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "السلام عليك يا أبا بكر صفيَّ رسول الله وثانيه في الغار جزاك الله عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيرًا"، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على عمر رضي الله عنه فيقول: "السلام عليك يا عمر أعز الله بك الإسلام جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرًا".
(الثامنة) يستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع خصوصًا يوم الجمعة ويكون ذلك بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا انتهى إليه قال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم اغفر لنا ولهم". ويزور القبور الظاهرة فيه كقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان، والعباس، والحسن بن علي، وعلي ابن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد وغيرهم، ويختم بقبر صفية رضي الله عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيح في فضل قبور البقيع وزيارتها أحاديث كثيرة.
(التاسعة) يستحب أن يزور قبور الشهداء بأحد وأفضله يوم الخميس وابتداؤه بحمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبكر بعد صلاة الصبح بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(العاشرة) يستحب استحبابًا متأكدًا أن يأتي مسجد قُباء وهو في يوم السبت أولى، ناويًا التقرب بزيارته والصلاة فيه للحديث الصحيح في كتاب الترمذي وغيره عن أُسيد بن ظهير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجد قُباء كعمرة"، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قُباء راكبًا وماشيًا فيصلي فيه ركعتين"، وفي رواية صحيحة: "كان يأتيه كل سبت".
(الحادية عشر) يستحب أن يأتي بئر أريس التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها وهي عند مسجد قُباء فيشرب من مائها ويتوضأ منه.
(الثانية عشر) يستحب أن يأتي ما بقي من المشاهد بالمدينة وكانت نحو ثلاثين موضعًا يعرفها أهل المدينة فليقصد ما قدر عليه منها وكذا يأتي الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها ويغتسل، فيشرب ويتوضأ وهي سبعة ءابار.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا قَفَلَ من حج أو عمرة كبَّرَ على كل شرَفٍ ثلاثَ تكبيرات ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، ءايبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، رواه البخاري ومسلم.
ومن خصَّ مشروعية زيارة قبره لغير القاصد بالسفر وحرَّم السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وادعى أنه سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة فلا يجوز العمل بكلامه، بل يجب نبذه والإعراض عنه.
وقد استدلوا بحديث: "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" لتحريم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والجواب: أن أحدًا من السلف لم يفهم هذا الفهم بل زيارة قبر الرسول سنّة سواء كانت بسفر أو بغير سفر كسكان المدينة، والحنابلة قد نصّوا كغيرهم على كون زيارة قبر النبي سنّة سواء قصدت بالسفر لأجلها أو لم تقصد بالسفر لأجلها.
وأما الحديث فمعناه الذي فهمه السلف والخلف أنه لا فضيلة زائدة في السفر لأجل الصلاة في مسجد إلا السفر إلى هذه المساجد الثلاثة، لأن الصلاة تضاعف فيها إلى مائة ألف وذلك في المسجد الحرام وإلى ألف وذلك في مسجد الرسول وإلى خمسمائة وذلك في المسجد الأقصى. فالحديث المراد به السفر لأجل الصلاة، ويبين ذلك ما رواه الإمام أحمد ابن حنبل في مسنده من طريق شهْر بن حَوْشَب من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا ينبغي للمَطيّ أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وهذا الحديث حسَّنه الحافظ ابن حجر، وهو مبيّن لمعنى الحديث السابق، والحديث يفسر الحديث، قال الحافظ العراقي في ألفيته في مصطلح الحديث:
وَخَيْرُ مَا فَسَّرتَهُ بالوارِدِ
قال الحافظ أبو زرعة العراقي: "(الحادية عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه ذلك لأنه من جملة المقاصد التي يؤتى لها ذلك المحل بل هو أعظمها، وقد صرح بذلك القاضي ابن كج من أصحابنا فقال: عندي إذا نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء وجهًا واحدًا ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان. وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السَّقام فشفى صدور المؤمنين. وكان والدي رحمه الله يحكي أنه كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن رجب الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل عليه السلام فلما دنا من البلد قال - أي ابن رجب -: نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحل لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، قال - أي الحافظ العراقي -: فقلت: نويت زيارة قبر الخليل عليه السلام، ثم قلت له: أما أنت فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: "زوروا القبور"، أفقال إلا قبور الأنبياء؟ قال: فبهت، قلت: ويدل على أنه ليس المراد إلا اختصاص هذه المساجد بفضل الصلاة فيها وأن ذلك لم يَرِد في سائر الأسفار" اهـ.
فائدة: يستحب طلب الاستغفار من الحاج لما رواه الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفرْ للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ".
فائدة أخرى: يسن أن يقول في رجوعه من سفر الحج: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، ءايبونَ عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدقَ وعده. ونَصَرَ عبده وهزم الأحزاب وحده.
هذا ءاخر الكتاب، والحمد لله أوَّلا وءاخرًا، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد خير خلقه وعلى سائر النبيين والمرسلين أَجمعين،
والله نسأل خاتمة الخير لنا ولسائر أَحبابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1) والاضطباع معناه أن يمر طرف ردائه الأيمن من تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفي ردائه على كتفه الأيسر.
(2) هذا في الطواف الذي يعقبه سعي.