لِماذا نحتَفِلُ بوِلادةِ النَّبىِّ ﷺ
Listen to this Speech in English: Why Do We Celebrate The Prophet's Birth ﷺ
الحمد لله الحميد الغَنىِّ، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدنا محمدٍ الحبيبِ النَّبىِّ، وعلى ءاله وصحبه وكلِّ تقِىٍّ رَضِىٍّ.
أما بعدُ عبادَ الله، فإنِّى أُوَصِّيكُم ونفسِىَ بتقوَى الله جلَّ وَعَزَّ القائلِ فى كتابه الكريم:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١﴾ (الأحزاب).
إخوةَ الإيمان، ماذا عسانا نقول من القول السديد فى يوم مولد الحبيب سيدِنا محمد؟ صاحبِِ الفضل على أمَّته، الذى ءاثَر أمتَه بدعوته التى أعطاها إيَّاه ربُّه فقال: "لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِىٍّ دَعْوَتَهُ." (رواه مسلم). ولكنه اختبأها شفاعةً لهم وذلك من رحمته بهم كما وَصَفَ ربُّه فى كتابه: ﴿بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ (التوبة). وهو الذى يقال له يوم القيامة: "يا محمَّدُ سلْ تُعطَ، واشفعْ تُشَفَّعْ." وهو الذى يقول "أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى." (رواه النَّسائىّ). وهو الذى أرشد للخير. فجزاه الله عن هذه الأمة خيرَ الجزاء.
فى شهر مولده ﷺ نتذكر عظمتَه وفضلَه وخُلُقَهُ وجِهادَهُ، وجميلَهُ علينا، ووَصْفَ جمالِه. وحين يمدحهُ المادحون ويذكر اسمَهُ الذاكرون تأخذنا الشُّجون حتى كأنَّ لسانَ الحال يقول: يا ليتنى أحظَى باللقاء ولو بنظرة منهُ فى المنام كما حَظِىَ بها سيدنا بلالٌ الحبشىُّ الذى كان له شرفُ الاجتماع به ﷺ ورؤياه يقظة. ومع ذلك لمَّا شاهدَ فى المنام وجهَه الأغرَّ ﷺ إذ به يصحو من نومه فى تلك الليلة وتَحْدُوهُ الأشواقُ بِوَجْدٍ يتأجَّجُ فى البطاح، يعجِّل سيره فى ليلٍ وصباح، ليصل المدينةَ الغرّاءَ فيقفَ على الأعتابِ، والعَبَرَاتُ من عينيه تنساب، علَّها تخفِّف من حرقة فى الفؤاد. ولكن هيهاتَ هيهاتَ. فبلالٌ هو الذى قبل مماته أطلق المقال: "غدًا نلقَى الأحِبَّة، محمَّدًا وصَحْبَه." غدًا أى يومَ الجزاء لقاءُ محمدٍ وصحابتِه.
فلهذا ولغيره الكثيرَ الكثيرَ نحن نحب رسولَ الله، نحب حبيبَ الله. ولذلك نُعلِّم أبناءنا كيف يحتفون بيوم مولده ﷺ.
ولماذا نحتفل بهذا اليوم المبارك على أمتنا؟
نحن نعرف أنه سيِّد الشاكرين لربه، فهو الشاكر المعلِّمُ بشكرِه كيف ينبغى أن يكون شكرُ المؤمن لربِّه على نِعَمِه الجَمَّةِ. لمَّا سئل عن صوم يوم الاثنين قال: "ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه وأُنْزِلَ عَلَىَّ فيه." (رواه أحمد والبيهقىُّ فى الدلائل)، ليُعلِمَ أمتَه أن لولادته شأنًا ارتبط بعبادتهم وتقرُّبهم إلى الرحمن؟ سئل عن صوم فأجاب بحادثة الولادة ليحيىَ ذكريات الولادة خاصة فى كل اثنين لنعتبر فى كل اثنين بولادة سيد الكونين ﷺ.
وهو سيد المتواضعين، يُذكر فى هذا اليوم تواضُعُه وهو الذى لا يأنف من مجالسة الفقراء والأكلِ معهم وزيارتِهم فى بيوتهم. مِن قوله ﷺ: "لا يؤمِن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين." (رواه البخارىّ)، نرى فى عمل المولد سببًا لنشر هذا الحب بين الأجيال ليتعلقوا به وبجماله ووصفه وهيئته وبقوله وبفعله. فَنَعُدُّ عملَنا هذا من أفضل الأعمال بالتدليل على هذه المحبة لمن جاء منقِذًا للناس من ظلم العبادة لغير الله وظلامها بدعوتهم الى نور عبادة الله تعالى وحده وحقِّها.
وفى عمل المولد التذكيرُ بأمور أخرَى، منها حفظُ اسمِه ونسبِه وانتمائِه العربىِّ وأسماء أولاده، وإلا لِمَ قال ﷺ: "أنا محمَّدٌ، وأنا أحمدُ، وأنا الماحِى الذى يمحو اللهُ بىَ الكفرَ، وأنا الحاشِرُ الذى يُحشَرُ الناسُ على قَدَمِى، وأنا العاقِبُ الذى ليس بعدَه أحدٌ." (متفق عليه)؟ هو نبىُّ الرحمة، ونبىُّ التوبة. هو أبو القاسم وأبو الزهراء.
فى المولد نتعلَّم ونُعَلِّم ونُذَكِّر أنه أشرفُ الناس، وإلا لماذا قال ﷺ: "إنَّ اللهَ اصطفَى كِنانةَ من وَلد إسماعيل، واصطَفَى قريشًا من كِنانةَ، واصطفَى من قريشٍ بنى هاشمٍ، واصطفانى من بنى هاشم." (رواه مسلم)؟ أليس لنَعلَمَ قدرَه وشرَفَه فيزدادَ حبُّنا له وتعظيمُنا له فنكونَ أَتْبَع لأمرِه ونَهجِه؟ بَلَى. قال شيخُنا الهَرَرِىُّ رحمه الله: "عَمَلُ المَوْلِدِ يُجَدِّدُ حُبَّ النَّبىِّ ﷺ فى المسلم، يبُثُّ فيه الشُّعُورَ بالحُبِّ للنَّبىِّ والمَيلِ إليه."
وفى المولد نتعلَّم ونعلِّم عن ولادته وأوصافِه سِيّما أوصافَه التى من رءاها فى المنام له بشرى بالعبور على الصراط ليدخل الجنة بإذن الله تعالى، فهو ﷺ الذى قال: "من رَءَانِى فى المنام فسَيَرَانِى فى اليَقَظَة." (متفق عليه)
وفى المولد قراءةٌ لسيرته فيُذكَرُ أنه تربَّى يتيمًا. فلا يَمنعنَّ يُتْمُ أحدٍ أن يَتَخَلَّقَ بأخلاقه ويتأدَّبَ بآدابه فترِقَّ نفسُه وقلبه.
وهو ﷺ الذى قال: "إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ" (رواه البَزَّار والبيهقىّ) وفيه تعليمٌ للأمة الالتزامَ بالأخلاق الحسنة.
وفى قراءة سيرته نتعلَّم من تجارته كيف ظَهَرَتْ بصِدْقِه البركاتُ، فَيَحْتَذِى به السالكون الراغبون فى الحلال، الطامعون فى البركات ولو بالقليل من الأرزاق.
وفى قراءة سيرته يتعلم الدعاةُ طرقَ الدعوة الى الله، وقد بدأ وحيدًا يدعو الى الإسلام حتى انتشر فى أرجاء الجزيرة العربية. وحمل اللواءَ بعده عليه الصلاة والسلام أصحابُه الأعلام حتى بلغوا بهذا الدين الشرقَ والغربَ. والله جَلَّ وَعَزَّ بَشَّره: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ ﴾ الفتح
وفى قراءة سيرته نعرف أن الدنيا التى نعيش فيها لا تدومُ لأحد فلا ينبغى أن نتقاتل عليها. وهو الذى كان ينام على الحصير ويربط الحجر على بطنه من الجوع وهو ﷺ القائل: "ازهَدْ فى الدنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهَدْ فيما فى أيدى الناس يُحبَّكَ الناسُ." اﻫ (رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد جيدة)
وفى قراءة سيرته تعليمٌ للأمة كيف يكون التمسُّكُ بدينه والسَّيرُ على نهجه، وهو ﷺ القائل: "المتَمَسِّكُ بسُنَّتِى (أى شريعتى من العقيدة والأحكام) عند فسادِ أمَّتِى له أجرُ شهيدٍ." (رواه الطبرانىّ)
نحتفل فى هذه المناسبة العطرة بمولد رسول الله ﷺ لهذه الأمور ولغيرها من المزايا الكثيرة، فضلًا عما يحصل فى هذا اليوم من البِرِّ والإحسان وإطعام الفقراء والمساكين، وسماعِ مدح المادحين له بأفئدة عامرة بحبه ﷺ. فتنساب النغمات بألحان المحبين عذبةً شجية وهم هائمون بالذات المحمدية يصلون عليه ويسلمون عليه عملًا بما أمر الله: ﴿صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾ (الأحزاب)
إخوةَ الايمان لو لم يكن فى الاحتفال بمولده ﷺ كما ذكرنا قبلُ إلا إرغامُ الشيطان وسرورُ أهل الإيمان المسلمين لكفى، فكيف بعد ما رأينا هذا الغيضَ من الفيضِ!
هذا وأستغفر الله لى ولكم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادىَ له، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى إخوانه النبيّين وءال بيته وصحبه والعلماء والصالحين.
أما بعدُ عبادَ الله فإنِّى أُوَصِّيكم ونفسىَ بتقوى الله جلَّ وَعَزَّ. ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾ اللهم صلِّ على سيدنا محمَّدٍ وسَلِّم. اللهم اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ.
الجمعة أَنَهايْم كالفورنيا ٨ ربيع الأول ١٤٤٠ هـ ١٦ ت٢ ٢٠١٨ر