المرء على دين خليله
Listen to this Speech in English: Man is influenced by one's associates
الحمد لله الذى غَمَرَ صَفوَةَ عبادِه بلَطائفِ التَّخصِيص طَوْلًا وامتِنانًا، وألَّفَ بين قلوبِهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، ونزَع الغِلَّ من صدورهم فظلُّوا فى الدنيا أصدقاءَ وأَخْدانًا، وفى الآخرة رُفَقاءَ وخِلَّانًا. والصلاة والسلام على سيدِنا محمدٍ وءاله وصحبِه ومن اتَّخذَهم عُِنوانًا.
أما بعد عباد الله، فإنى أوصيكم ونفسىَ بتقوى الله جَلَّ وَعَزَّ القائلِ فى محكم كتابه: ﴿ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۢ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ٦٧﴾ الزخرف
الله تبارك وتعالى أخبرنا فى هذه الآية الكريمة أن الذين كانوا فى هذه الدنيا أخِلَّاءَ وأحبابًا وأصحابًا ينقلبون فى الآخرة أعداءً لعظم أهوال يوم القيامة وشدة خوفهم فيها. فيتعادى ويتباغض كُلُّ خليل كان فى الدنيا على غير تُقًى مع خليله لأنه يرى أنَّ الضرر قد دخل عليه من قِبَلِ خليله، إلا المتقين فإن مودَّتَهم تبقى بينهم فى الآخرة وينتفع كل واحد منهم بصاحبه.
المتقون، إخوةَ الإيمان، هم الذين يقومون بحقوق الله وحقوق العباد، وذلك بأداء ما افترض الله عليهم واجتناب ما حرَّم عليهم، وبمعاملة العباد معاملة صحيحة موافقة لشرع الله. فهؤلاء من شأنهم أنهم يتواصَوْن ويتعاونُون على ما يُرضِى اللهَ تعالى. يجتمعون على الطاعة ويتفرَّقون عليها. لا يغُش ولا يخون بعضُهم بعضًا، ولا يدلُّ بعضُهم بعضًا على بدعةِ ضلالةٍ أو فسقٍ أو فجورٍ أو ظُلْمٍ. أحبَّ كلُّ واحدٍ منهم أخاه لوجه الله فتصافَوا الحُبَّ فى الله، وأعْلَمَ كلُّ واحد منهم أخاه أنه يحبُّه فى الله تعالى عملًا بقوله ﷺ: "إذا أحبَّ أحدُكم أخاه فَلْيُعْلِمْهُ." رواه الترمذىّ. ثم إنْ حصلت من أحدهم معصيةٌ ينهاه أخوه ويزجره. ففى ذلك إعانةٌ لأخيه المؤمن على الخير.
وينبغى أن يكون فيمن تؤثَرُ صحبتُه خمسُ خصالٍ: أن يكون عاقلا، حَسنَ الخُلُقِ، لا فاسقًا، ولا مبتدِعًا، ولا حريصًا على الدنيا. فأما العقل، فهو رأس المال، ولا خير فى صحبة الأحمق، لأنه يريد أن ينفعك فيضرك. وأما حسن الخلق فلا بد منه، إذ رُبَّ عاقلٍ يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه. فهذا لا خير فى صحبته. وأما الفاسق، فإنه لا يخاف اللهَ فلا تؤمَن غَائِلتُه ولا يوثَق به. وأما المبتدِع فيُخاف من صحبته سَرَيانُ بدعتِه. والحريص على الدنيا يبيع صاحبه من أجلها.
ومن حق الصحبة الإيثارُ بالمال، وبذلُ الفاضل منه عند حاجة صاحبه إليه. ويُروَى أن فتحًا المَوْصِلِيَّ جاء إلى صديق له يقال له عيسى التَّمَّار، فلم يجده فى المنزل. فقال للخادمة: أَخرجِى لى كيسَ أخِى. فأخرجته، فأخذ منه درهمين. وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بذلك. فقال مِن فرحه: إن كنتِ صادقةً فأنتِ حُرَّةٌ. فنظر فإذا هى قد صدقت؛ فعَتَقَتْ.
ومن حق الصحبة الإعانة بالنفس فى الحاجات. وذلك درجات أدناها القيامُ بالحاجة عند السؤال والقدرةِ مع البشاشة والاستبشار، وأوسطُها القيامُ بالحوائج من غير سؤال، وأعلاها تقديمُ حوائجه على حوائج نفسِه. وقد كان بعض السلف يتفقد عيالَ أخيه بعد موته أربعين سنة فيَقضِى حوائجَهم.
ومنها كتمانُ السِّرِّ، وسَترُ عيوبِه فى حضوره وغيبته، والسكوتُ عن تبليغ ما يسوؤه من مَذَمَّة الناسِ إياه. ومنها حسنُ الإصغاء عند حديثه حتى يفرُغَ منه، وتركُ مماراته ومناقشته فيه. ومنها أن يدعوَه بأحسن أسمائه إليه. ومن ذلك أن يُثْنِىَ عليه بما يعرفه من محاسن أحواله من غير إفراط ولا كذب، ويشكرَه على صنيعه فى وجهه ويَذُبُّ عنه فى غيبته إذا تُكُلِّمَ فيه كما يَذُبُّ عن نفسه، وأن ينصحَه بلطف وتعريض إذا احتاج إليه ويعفوَ عن زلته وهفوته. فإن كانت زلته فى دِينه فيتلطف فى نصحه مهما أمكن، ولا يترك زجرَه ووعظه، ولا يُكثر العتَب عليه بحيث ينفَّر من القبول. وقد قال ابن المبارك: ”المؤمن يطلب المَعاذير، والمنافق يطلب الزَّلَّات.“ فيتركُ إساءةَ الظن بأخيه، ويحملُ فعلَه على الحسَن مهما أمكن.
ومنها أن لا يكلِّفه شيئا من حاجاته كى لا يثقل عليه، وأن يريح قلبَه من مهماته، ويظهرَ له الفرح بجميع ما يسرُّه، ويظهرَ له الحزنَ بما يناله من المكاره. وأن يُسِرَّ له مثلَ ما يُظهِرُه فيكون صادقا فى وُدِّه سرًّا وعلانية. وأن يبدأه بالسلام عند إقباله، وأن يوسع له فى المجلس، ويَخرُجَ له من مكانه ويشيِّعَه عند قيامه، ويعاملَه بما يحب أن يعامَل به.
ومنها الوفاءُ والإخلاص، ومعنى الوفاءِ الثباتُ على الحب إلى الموت، وبعد موت الأخ مع أولاده وأصدقائه. وقد أكرمَ النبىُّ صلى الله عليه وءاله وسلم عجوزًا [هى حَسَّانَةُ المُزَنيَّةُ وكان اسمها جَثَّامة] وقال: "إنها كانت تأتينا زمنَ خديجة، وإنَّ حُسْنَ العَهْدِ من الإيمان." رواه الحاكم فى المستدرك. وحسن العهد يكون بحسن العشرة، ورعاية الحرمة (العِرض)، وزيادة المحبة والألفة. هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه. وبعد، فإنى أوصيكم ونفسىَ بتقوى الله جَلَّ وَعَزَّ.
ثم اعلموا أنَّ النفسَ من شأنها المحاكاةُ والتشبُّهُ بصفات مَن قارنَها. قال عليه الصلاة والسلام: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ." رواه أحمد فى مسنده.
ثم اعلموا أنَّ النفسَ من شأنها المحاكاةُ والتشبُّهُ بصفات مَن قارنَها. قال عليه الصلاة والسلام: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ." رواه أحمد فى مسنده.
فصحبةُ الغافلين سببٌ لحصول الغَفلة. وقد قال الإمام مالك رَضىَ اللهُ عنه: "لا تصحبْ فاجرًا لئلا تتعلمَ من فجوره". وقال السّيدُ أحمدُ الرّفاعىُّ رَضىَ اللهُ عنه: "واحذر نفسَك من مصاحبة صديق السُّوء فإنَّ عاقبةَ مُصاحبته النَّدامةُ والتَّأسفُ يوم القيامة، كما قالَ اللهُ تعالى مُخبرًا عمَّن هذا حالُه: ﴿وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَا لَيۡتَنِى ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا٢٧ يَا وَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِى لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلًا٢٨﴾ (الفرقان). فبئس القرينُ. فاحفَظ نفسَك من القرين السُّوء." وقال العلامة الشيخ عبد الله الهررىُّ: "من أراد الترقِّى فليُصاحِبِ الأخيارَ."
فاحرص أخى المسلم على مخالطة التَّقِىِّ فإن فيه حفظَ دينك. وهو أَولَى لك من مخالطة غير التقىِّ، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِىٌّ." رواه ابن حبان. وروى أبو يعلى وعبدُ بن حُمَيدٍ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قيل: يا رسولَ الله أىُّ جُلسائنا خيرٌ؟ قال: "مَنْ ذَكَّرَكُم بِاللَّهِ رُؤْيتُهُ، وَزَادَ فِى عِلْمِكُم مَّنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُم بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ." فمِنْ مِثْلِ هؤلاء اخترْ صاحبَك، وذلك لأن أكثرَ ما يعينُك على الطاعات مخالطةُ المطيعين، وأكثرَ ما يُدْخِلُكَ فى الذنب مخالطةُ المذنبين. فإياك أن تصاحبَ من لا تثق به وبأمانته ولا تعرفُ صلاحه وتقواه، فإن المرء يكون فى الآخرة مع من أحبَّ.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات. اللهم اجعلنا من الإخوة المتحابِّين فيك، ومن الذين يجتمعون على طاعتك. وثبِّتنا على الإيمان وسدد خطانا نحو الخير يا أرحم الرحمين.
الجمعة فلادلفيا ١٠ صفر ١٤٤٠ هـ - ١٩ ت١ ٢٠١٨ر