حِفْظُ اللِّسانِ ومخالفَةُ النّفْسِ
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ الكائناتِ ، المنَزّهُ عنِ الحدودِ والغاياتِ والأركانِ والأعضاءِ والأدواتِ ولا تحويهِ الجهاتُ السِّتُّ كسائرِ المبتَدَعاتِ.
وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ وهوَ خيرُ الكائناتِ وهوَ المؤيّدُ بالمعجزاتِ الباهراتِ ، صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ وعلى إخوانِهِ النّبيّينَ والمرسلينَ الذينَ سطعتْ شمسُ هَدْيهِمْ بالهدى والخيراتِ والبركاتِ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتقوى اللهِ العليِّ القديرِ القائلِ في مُحكمِ كتابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (سورة الحشر/18-19) .
إنّ للهِ عبادًا فُطَنَا طَلَّقوا الدُّنْيا وخافوا الفِتَنَا
نَظَروا فيها فلَمَّا عَلِموا أنّها ليستْ لِحيٍّ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً واتَّخَذوا صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنا
فخُذْ أخي المسلمُ منْ دنياكَ لآخرتِكَ، تزوَّدْ منْ دنياكَ لآخرتِكَ كأنّكَ تموتُ غدًا واسمعْ معي جيّدًا قولَ اللهِ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (سورة ق / 18 ).
أعلَمَنا اللهُ بهذهِ الآيةِ بأنَّ علينا ملائكةً يكتبونَ الأفعالَ والأقوالَ، لا يقتصرونَ على كتابةِ الأقوالِ فقطْ لكنّ اللهَ ذكرَ في هذهِ الآيةِ القولَ لأنّ أكثرَ الجوارِحِ عملاً اللسانُ فهو أكثرُ عملاً منْ غيرِهِ منَ الجوارحِ كاليدِ والرِّجْلِ والأُذُنِ. فالملكانِ رقيبٌ وعتيدٌ مُوَكَّلانِ بابنِ ءادم بكلِّ شخصٍ ذكرٍ أو أنثى ، كاتبٌ للحسناتِ وكاتبٌ للسيِّئاتِ، فإنْ تابَ العبدُ منَ السيِّئاتِ تُمحى، وإنْ لَمْ يتُبْ تبقى فيجدُها في صحائفِهِ يومَ القيامةِ. فيجبُ على الإنسانِ حفظُ جميعِ جوارِحِهِ مِمّا حَرّمَ اللهُ ولا سيِّما اللسانُ. فقد روى البيهَقِيُّ أنّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ قالَ: "مَنْ ضمِنَ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ورِجليْهِ ضمِنتُ لهُ الجنّةَ" .
أيْ مَنْ حفِظَ ما بينَ لَحْيَيْهِ أيْ لسانَهُ ، ورِجليْهِ أيْ فرجَهُ ضمنْتُ لهُ الجنّةَ. وهنا أيضًا قدّمَ الرّسولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ حفظَ اللِّسانِ على الفرْجِ لأنّ ذنوبَ اللِّسانِ تزيدُ أضعافًا مضاعفةً على ذنوبِ الفرْجِ ، لذلكَ قالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "مَنْ صمَتَ نجا" رواه التِّرمِذِيُّ.
وقالَ صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ: "إنّك لا تزالُ سالِمًا ما سَكَتَّ فإذا تكلّمتَ كانَ لكَ أوْ عليكَ" رواهُ البيْهقِيُّ .
فحِفظُ اللسانِ منْ أهمِّ الأمورِ لأنّهُ يساعدُ على حفظِ الدِّينِ والسّلامةِ منْ كثيرٍ منَ الآفاتِ لأنّ كثيرًا منْ ءافاتِ الدّنيا سببُها اللسانُ ، فعلى الإنسانِ العاقلِ أنْ يخالفَ هوى النّفسِ ولا يتكلّمُ بكلمةٍ حتّى يفكِّرَ في عاقبةِ هذا الكلامِ قبلَ أنْ يقولَهُ فإنْ عَلِمَ أنّ نتيجَتَهُ خيرٌ تكلّم به وإلا سكتَ عنهُ وذلكَ لأنَّ كثيرًا منَ البلايا تأتي منْ إطلاقِ اللسانِ بلا تحفُّظٍ إمّا بالمُزاحِ وإما في حالِ الغضَبِ فيُهلِكُ الإنسانُ نفسَهُ.
"إنّك لا تزالُ سالِمًا ما سَكَتَّ" أيْ ما دُمتَ ساكتًا سلِمْتَ منْ شرِّ ما يلحقُكَ منَ الوَبالِ لوْ نطقْتَ بكلامٍ خبيثٍ .
"فإذا تكلّمتَ كانَ لكَ أوْ عليكَ" أيْ لَمّا تتكلّمُ فإمّا أنْ يكونَ كلامُكَ هذا لكَ أوْ عليكَ أيْ نفْعًا لكَ أو ضرَرًا عليكَ .
فمفاد ذلك أنّه ينبغي للإنسانِ طولُ الصّمتِ إلا منْ خيرٍ فإنّ ذلكَ يُغضِبُ الشّيطانَ لأنّه يصعُبُ عليهِ عندئذٍ أنْ يوقِعَهُ في المهالِكِ ، في الكفرِ أوِ المعصيةِ التي هيَ دونَ الكفرِ. أمّا لوْ تكلّمَ كيْفَما كانَ فالشّيطانُ يفرَحُ بهِ لأنّهُ يسهُلُ عليهِ عندئذٍ أنْ يوقِعَهُ في المهالِكِ. فعنْ عُقبةَ بنِ عامرٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنّهُ قالَ: "ما النّجاةُ يا رسولَ اللهِ ؟ قال: "أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ولْيَسعُكَ بيتُكَ وابكِ على خطيئتِكَ" رواه التّرْمِذِيُّ وصَحّحَهُ.
هذا الحديثُ إخوةَ الإيمانِ فيه فوائدُ عظيمةٌ .
أوّلُها : الحثُّ على حِفظِ اللسانِ الذي منهُ أكثرُ معاصي الإنسانِ ، ومِمّا أنشدوهُ في ذلكَ:
احفظْ لسانَكَ أيّها الإنسانُ لا يلْدَغْنَكَ إنّهُ ثُعبانُ
كَمْ في المقابِرِ مِنْ قتيلِ لسانِهِ كانتْ تهابُ لقاءَهُ الشُّجعانُ
وثانِيها: الحثُّ على القَناعةِ بِما رَزَقَنا اللهُ لأنّ الذي يقنَعُ بِما رزقَهُ اللهُ وينْظُرُ إلى مَنْ هو أقلُّ منهُ في أمورِ الدّنيا وينْظُرُ إلى مَنْ هو أعلى منهُ هِمّةً في الطّاعةِ في أمورِ الدِّينِ ، هذا يُقبِلُ إلى طاعةِ اللهِ ، هذا بإذنِ اللهِ يخالِفُ هواهُ ويلتزِمُ بشرعِ اللهِ تعالى .
وثالثُها: أنّهُ يجبُ على الإنسانِ أنْ يتوبَ مِنْ ذنوبِهِ . قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ: " وابكِ على خطيئتِكَ" لأنَّ البكّاءَ الّذي يحبّهُ اللهُ هوَ بكّاءُ الإنسانِ على ذنوبِهِ ، فإنّ العينَ التي تبكي مِنْ خَشيةِ اللهِ لا تَمَسُّها نارُ جهنّمَ. فينبغي للإنسانِ أنْ يُلْزِمَ نفسَهُ محاسبَتَها على الذّنوبِ، فينْظُرَ الإنسانُ في نفسِهِ ويفكِّرُ بعدَ كلِّ برهةٍ ماذا عمِلَ مِنّ الذّنوبِ حتّى يُحدِثُ لها توبةً قبلَ فُواتِ الأوانِ. اللهمّ إنّا نسألُكَ حُسْنَ الحالِ وحُسْنَ الخِتامِ يا أرحمَ الرّاحمينَ يا اللهُ. هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخُطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُه ونستهدِيه ونستغفِرُهُ ونشكرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهَ فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لَهُ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاهُ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإني أوصيكُمْ ونفسِي بتقوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ، ثمّ أوصيكُمْ بوصيّةٍ منْ عمِلَ بها نجا مِنْ كثيرٍ من المهالِكِ، وهذه الوصيّة هي: طولُ الصمتِ، الرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ: "مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ " .
معناهُ ينبغي أنْ لا يتكلّمَ الإنسانُ إلا بما يراهُ لا بأسَ بهِ. اليومَ كثرةُ الكلامِ أهلكَ كثيرًا من الناسِ . أناسٌ من الكلامِ الذي يصدرُ منهمْ مِمّا لا يحتاجونَ إليهِ هَلَكوا، والسببُ في ذلك أنهمْ يُكثرونَ من الكلامِ.
صاحبُ رسولِ اللهِ جابرُ بنُ سَمُرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: "كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ يطيلُ الصمتَ" أيِ السكوتَ أي إلا عنْ ذكرِ اللهِ وما هو منَ الدينِ وما ينفعُهُ في معيشتِهِ.
فينبغي لنا أن نقتديَ برسولِ اللهِ فنطيلَ الصمتَ ونقلِّلَ الكلامَ. كثيرٌ من الناسِ من كثرةِ الكلامِ هَلَكوا، فمن أرادَ السلامةَ أطالَ الصمتَ فيكونُ عمِلَ بوصيةِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ .
وهناك أمرٌ مهمٌّ وهو مخالفةُ الهوى، مخالفةُ النفسِ، الرجلُ ينبغي أن يخالفَ نفسَهُ لأنّ النفسَ ميّالةٌ إلى الشرِّ، كثيرٌ من المعاصي والمهالِكِ سببُها مطاوعةُ هوى النفسِ . ليس كلُّ الشرِّ من الشيطانِ بلْ نفسُ الشخصِ إن اتّبعَها في هواها تُهْلِكِ الشخصَ كما يُهلِكُ الشخصَ اتباعُ وساوسِ الشيطانِ. ليسَ كلُّ الشرِّ من الشيطانِ بلْ كثيرٌ من الشرِّ من طاعةِ النفسِ في هواها. قالَ بعضُ العلماءِ: "أعدى أعدائِكَ نفسُكَ التي بينَ جنبَيْكَ".
معناهُ أيها الإنسانُ عدوٌّ كبيرٌ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيْكَ أيْ إنْ أطعتَها في هواها تُهْلِكْكَ. فعليكمُ بمخالفةِ النفسِ في هواها، مَنْ خالفَ النفسَ حَفِظَ دينَهُ وعِرضَهُ، والعِرضُ معناهُ سُمْعَتُهُ، العِرْضُ شاملٌ لِشَرَفِ الشخصِ، لسلامةِ ذِكرِهِ بينَ الناسِ ، أعَمُّ منَ المعنى الذي في عُرْفِ الناسِ.
اجتمعَ ولِيّانِ أحدُهُما وجَدَ الآخرَ متربِّعًا في الهواءِ فقالَ لهُ الآخرُ: بِمَ وصلْتَ إلى هذا ؟ فقال: "بمخالفةِ النفسِ" .
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.