عَليكَ بِطولِ الصَّمتِ إلاَّ منْ خيرٍ
إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ. الحمدُ للهِ الكَريمِ الدَّيانِ، الذِي جَعَلَ مَكارِمَ الأَخلاقِ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجِنانِ، وَجَعَلَ حُسْنَ الخُلُقِ مِنْ أَفْضَلِ الأَشْياءِ في الميزانِ، أَحْمَدُهُ سُبحانَه على كلِّ نِعمَةٍ مَا نَطَقَ بِذِكْرِها أَوْ سَكَتَ لِسانٌ، وَأَشْهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ الْمَنَّانُ، شهادةً أَعْتَـزُّ بِها وَأَفْخَرُ وَأَسْأَلُ اللهَ النَجاةَ وَالأَمانَ، وأشهَدُ أَنَّ سَيِّـدَنا مُحمدًا عبدُه ورسولُه المبعُوثُ رَحمَةً للإِنسِ وَالجانِّ، الْمُنـزَّلُ عليهِ أَفْضَلُ كتابٍ القُرءانُ، وصَلِّ اللهم عليهِ وعلى ءالِه وَصَحْبِه عَلَى مَرِّ الأيَّامِ وَالأَزْمانِ.
أما بعدُ فيَا عبادَ اللهِ اتَّقُوا اللهَ فإِنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاه، وَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاه، وَمَنْ تابَ تَابَ اللهُ عَليهِ وَهَدَاه، وَمَنْ رَضِيَ عَنِ اللهِ أَيْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهُ وَأَرْضَاهُ وَمَنْ ذَكَرَ اللهَ ذَكَرَهُ اللهُ فِيمَنْ عندَهُ، وَمَنْ رَدَّ عن عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجهِهِ النَّارَ، وَمَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ بِالإيمانِ وَالتَّقْوَى أَكْرَمَهُ اللهُ في دَارِ القَرَارِ.
يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الذينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ سورةُ الحشرِ / ءاية 18، لقَدْ أمَرَنَا اللهُ بهذهِ الآيةِ أَنْ نَنْظُرَ نَظَرَ تَفَكُّرٍ وَاعْتِبَارٍ لِمَا نُقَدِّمُ لِيَوْمِ غَدٍ أَيْ لِمَا بَعدَ الموتِ، أَحْبَابَنَا الكرام إِنَّ مَنْ تَفَكَّرَ بِالعَوَاقِبِ سَلِمَ مِنَ النَّوائِبِ وَالذَّكِيُّ الفَطِنُ هُوَ الذِي يُفَكِّرُ وَيَعْمَلُ لِمَا بَعْدَ الموتِ وَيُكْثِـرُ منَ العَمَلِ الصالِحِ، إنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ اليَوْمَ لا يُفَكِّرونَ بِمَا هُوَ ءاتٍ، لا يَنْتَبِهُونَ أَنَّهم فِي مَحَلِّ العِبَرِ وَالآفَاتِ فَلا يَتَزَوَّدُونَ لِمَا بعدَ الممَاتِ، ولا يَتَدارَكونَ من هفَواتِهِمْ قبلَ الفَواتِ، بَلْ ولا يُحاسِبُونَ أنفسَهُم في الجَهْرِ وَالخَلَواتِ، حَتَّى يُفاجِئَهُم هَاذِمُ اللذَّاتِ وَتَنْقَلِبَ عليهِم أعمالُهُم حَسَرَاتٍ.
إخوة الإيمان، إنَّ النَّبِيَّ عليهِ السَّلامُ رَأَى لَيلَةَ الإِسراءِ والمعرَاجِ ثَوْرًا يَخْرُجُ مِنْ مَنْفَذٍ ضَيِّـقٍ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعودَ فَلا يَسْتَطِيعُ فسألَ جبريلَ مَنْ هذا، فقالَ هذا الذِي يَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ الفَاسِدَةْ ثُمَّ يُريدُ أن يَرُدَّها فَلا يَستطِيعُ، هذا يَحْصُدُ لِنَفْسِهِ وَبَالاً يَوْمَ القِيامَةِ، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جبلٍ رضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: "قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! (أَيْ تَنَبَّـهْ هُناكَ أَمْرٌ مُهِمٌّ) وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِم إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" رواهُ التِّرمِذِيُّ وقالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
إخوةَ الإيمانِ إِنَّ مِنَ الكَلامِ مَا يُؤَدِّي بِصاحبِه إِلَى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ منَ النَّارِ وَهُوَ الكُفْرُ والعياذُ باللهِ تعالَى، نعم بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ تَخْرُجُ مِنْ دينِ الإِسلامِ وَإِنْ مِتَّ على ذلكَ تخلد في نارِ جَهَنَّمَ إلى أَبَدِ الآبِدينَ فَلا رَحْمَة مِنْ ربِّكَ تَنَالُهَا يَومَئِذٍ وَلا شَفاعَةَ نَبِيٍّ ولا انقِطَاعَ عَذَابٍ بل خُلودٌ أبَدِيٌّ في نارِ جهنَّمَ تفكَّرْ في ذلكَ يا ابنَ ءادَمَ خُلودٌ أَبَدِيٌّ في نارِ جهنمَ وَلا تَقُلْ أَنَا مَا كُنْتُ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ أَوْ مَا كُنْتُ أَعرِفُ الحُكْمَ أَوْ هِيَ كَلِمَةٌ أَجْرَيْـتُها على لسانِي مِنْ غَيْرِ اعتِقَادٍ لِمَا أَقُولُ فَقَدْ قَالَ الصَّادِقُ المصدُوقُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ (أَيْ بِكَلِمَةِ الكُفرِ) لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" أيْ مسافةَ سَبْعينَ عَامًا في النُّزولِ وذلكَ مُنْتَهَى جَهَنَّمَ وَهُوَ خَاصٌّ بِالكُفَّارِ لا يَصِلُهُ عُصَاةُ المسلمينَ.
فَكِّـرْ في كُلِّ هذا وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَاجِئُهُمْ مَلَكُ الموتِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَرَّؤُوا مِنْ كُفْرِهِمْ فَيَقُولُ مَلَكُ الموتِ لأحَدِهم: أَبْشِـرْ بِسَخَطِ اللهِ وعَذَابِه يَا عَدُوَّ اللهِ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ عَلَى أَحَدِ الصَّالِحينَ وَبَدَأَ بِشَتْمِهِ فقالَ لَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ انْـتَبِهْ إِنَّمَا تُمْلِي عَلَى مَلَكَيْنِ، أَيْ فَكِّـرْ وَتَبَصَّـرْ فِي عَواقِبِ مَا تَقُولُ فَإِنَّ كَلامَكَ يُسَجِّلُهُ الملائِكَةُ عَلَيْكَ فَلا يَسُـرُّكَ أن تَرَى مَا يَسُوؤُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَومَ الحَسْرَةِ وَالنَّدامَةِ يَوْمَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ .
إخوةَ الإِيمانِ، لا تَقُولوا نحنُ نَتَكَلَّمُ بِكلامٍ لا خيرَ فيهِ وَلكِنَّه ليسَ حَرَامًا لأنَّـهُ مُبَاحٌ فَهذَا بَابٌ مِنْ أَبْوابِ الشَّيطانِ يُلَبِّـسُ فِيهِ علَى النَّاسِ لِيَتَكَلَّمُوا حَتَّى يُزِلَّهُمْ بَعدَ ذلكَ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عيه وسلم: "علَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطانِ عَنْكَ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ". ثُمَّ إِنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ فِيمَا لا خَيْرَ فيهِ قَدْ تَجُرُّ إلى الحرَامِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبِّي فقد رُوِيَ عن سيِّدِنا عُمَرَ الفَارُوقِ أَنَّهُ قالَ : "مَنْ كَثُـرَ كَلامُهُ كَثُـرَ سَقَطُـهُ وَمَنْ كَثُـرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ دَخَلَ النَّارَ" أَيْ هَذَا حَالُ أَغْلَبِ النَّاسِ.
أحبَابَنا الكِرام رَأَى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسراءِ وَالمِعْراجِ أيضًا قَوْمًا يَخْمِشُونَ وُجوهَهُم وَصُدورَهُم بِأَظْفَارٍ نُحاسِيـَّةٍ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عليهِ السلامُ مَنْ هؤلاءِ يا جِبْريل، قالَ هؤلاءِ الذينَ يَغْتَابُونَ المسلِمَ المؤمِنَ، وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ عز وجلَّ المُغتَابَ فِي القُرءانِ بِمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْـتًا وذلِكَ لِقُبْحِ فِعْلِهِ. فَكِّـرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَقُولُ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَتَكَلَّمْ وَلا تَخَفْ، وَإِنْ كَانَ شَـرًّا فَحَـذَارِ حَـذَارِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فَجَهنمُ حَـرُّها شديدٌ وَقَعْـرُها بَعِيدٌ، وَإِنْ شَكَكْتَ فِي شَىءٍ هَلْ هُوَ حَلالٌ أَمْ حَرامٌ فَلا تَتَكَلَّمْ بهِ فَالسَّلامَةُ لا يَعْدِلُهَا شَىءٌ، وَمِلاكُ ذلكَ كُلِّهِ علمُ الدِّينِ، عِلْمُ الدينِ هُو الميزانُ لَكَ في مَعْرِفَةِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْـرُمُ مِنَ القَوْلِ وَالفِعْلِ وَالاعتِقَادِ.
اللهُمَّ بَصِّـرْنَا بِعُيُوبِنا وَفَقِّهْنَا فِي دينِنَا وَيَسِّـرْ لَنَا أَرْشَدَ أَمْرِنَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ يا اللهُ. هذا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وصحبِه ومن تبعهُ بإحسانٍ عبادَ اللهِ اتَّقوا اللهَ تعالى واعْلَمُوا بأنّ اللهَ أَمَرَكُم بأَمْرٍ عَظيمٍ، أَمَرَكُم بالصّلاةِ على نبيِّهِ الكريمِ فَقَالَ: ﴿إنّ اللهَ وملائِكَتَهُ يُصلّونَ على النّبيِ يا أيُّها الذينَ ءامَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وَسلِّمُوا تَسْليماً﴾ اللّهُمّ صلّ على محمدٍ وعلى ءالِ محمدٍ كما صلّيْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ إنّكَ حميدُ مجيدُ اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى ءالِ محمدٍ كَمَا بَاركْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ. اللّهُمّ إنّا دَعَوْناكَ فاستجِبْ لَنَا دُعاءَنا فاغفِرِ اللّهُمّ لنا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا في أمْرِنَا وَكَفِّرْ عنّا سيّئاتِنَا وَتَوَفَّنَا بِرَحمتكَ مُؤمنينَ يا ربَّ العالمينَ. اللّهُم اغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا اللّهُم اغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا اللّهُم نَقِّنَا من الذُّنوبِ والخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبيَضُ مِنَ الدّنَسِ يا ربَّ العالمينَ اللّهُمّ عَلِّمْنَا ما جَهِلْنَا وذَكِّرْنَا ما نَسينا واجعَلِ القُرءانَ ربيعَ قُلُوبِنَا ونُوراً لأبْصارِنَا وَجَوَارِحِنَا وَتَوَفَّنَا على هَدْيِهِ وأكْرِمْنَا بِحِفْظِهِ واحْفَظْنَا بِبَرَكَتِهِ وَبَرَكَةِ نَبيِّكَ مُحمدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ واغفِرِ اللّهُمَ للمُؤمنينَ والمؤمناتِ الأحْياءِ مِنهُم والأمواتِ إنّكَ يا حيُّ يا قيومُ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدّعواتِ، عِبادَ اللهِ إنّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى ويَنْهى عنِ الفَحْشاءِ والمُنكَرِ والبغْيِ يَعِظُكُمْ لعلّكُم تَذَكّرُونَ اذكُرُوا اللهَ العظيمَ يَذْكُرْكُمْ واشكُرُوهُ يَزِدْكُمْ واسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ واتّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكم مَخْرَجاً. وَأَقِمِ الصّلاةَ.