تفسيرُ سورةِ التكَاثُر
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكُُرُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، الحمدُ للهِ الذي خلقَ الخلقَ فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد، ومنهم قبيحٌ ومنهُم حسنٌ، لا يُعترَضُ عليهِ ولا يُلامُ ولا يُسألُ عما يفعلُ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ولا مثيلَ له ولا شبيهَ له لا يشبهُ خلقَه ولا بِوجهٍ من الوجوهِ ليسَ كمثلِه شىءٌ وهو السميعُ البصيرُ وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعينِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه، الصلاةُ والسلامُ عليك يا رسولَ اللهِ يا محمد الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا أبا الزهراءِ أنتَ طِبُّ القلوبِ ودواؤُها وعافيةُ الأبدانِ وشفاؤُها ونورُ الأبصارِ وضياؤُها اللهمَّ صلِّ عليهِ وعلى جميعِ إخوانِه النبيينَ والمرسلينَ وسلِّمْ يا ربَّنا تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، إخوةَ الإيمانِ أوصِي نفسيَ وأوصيكم بتقوى اللهِ العليِّ العظيم، اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِه يقولُ ربُّنا سبحانَه وتعالَى في مُحكمِ التنـزيلِ القرءانِ العظيمِ: ﴿ألهاكُمُ التكاثر﴾ سورة التكاثر / 1.
ألهاكم شغلَكم عن طاعةِ اللهِ وعبادتِه تكاثُرُ الأموالِ والأولادِ والتفاخُرُ بالقبائِلِ والعشائِرِ والانشغالُ بالمعاشِ والتجارةِ. ويقولُ الحبيبُ المصطفى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يقولُ ابنُ ءادمَ مالِي مالِي وهلَ لكَ من مالِكَ إلا ما أكَلْتَ فأفنَيْتَ أو لبستَ فأبلَيْتَ أو تصدَّقتَ فأمضَيْتَ"، فلماذا التعلُّقُ بالدنيا، لماذا تحمِلونَ همَّ المالِ، لماذا يأكلُ حبُّ المالِ قلبَك، يقولُ الإنسانِ مالِي مالِي ذهبِي أملاكِي ولن تأخذَ منها شيئًا، ألم تسمَعْ أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ: "إذا ماتَ ابنُ ءادمَ تبعَهُ ثلاثٌ أهلهُ ومالُه وعملُه فيرجعُ أهلُه ومالُه ويبقَى عملُه" لن يبقَى في هذهِ الحفرةِ الظلماءِ إلا عمَلُك، لا زوجةٌ ولا ولدٌ ولا قصرٌ ولا أثاثُ بيتٍ ولا سيارةٌ ولا مالٌ لن يبقَى في قبرِك إلا عملُكَ إن أحسَنْتَ فلنَفْسِك وإن أسَأْتَ فعليها وما ربُّك بظلامٍ للعبيدِ، لأيِّ شىءٍ تحمِلُ همَّ المالِ والإكثارِ منَ المالِ وليسَ لك منه إلا ما أكلتَه فأفنَيْتَه أو لبِسْتَه فأبلَيْتَه أو أعطَيْتَه في سبيلِ اللهِ فادَّخَرْتَه لآخرتِك. يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿ألهاكُمُ التكاثُرُ حتى زرتُمُ المقابِرَ﴾ أي حتَّى أدركَكُمُ الموتُ وأنتم على هذهِ الحالةِ، فأنتُم في مقابِرِكُم زوارٌ، زوارٌ لأنكم سترجِعونَ لمنازِلِكم إما في الجنةِ وإما في النارِ، الواحِدُ في القبرِ زائرٌ، في القبرِ مثَلُكَ مَثَلُ الزائرِ الذي سيرجِعُ إلى منـزِلِه ومنـزِلُكَ بعدَ القبرِ إما جنةٌ وإما نارٌ، نسألُ اللهَ الأمان. الويلُ ثم الويلُ لمن شغَلَهُ حبُّ المالِ عن طاعةِ اللهِ، الويلُ ثم الويلُ لمن شغَلَتْه الدنيا عن فرائضَ فرضَها اللهُ علينا، الويلُ ثم الويلُ لمن انتهَكَ حُرُماتِ اللهِ من أجلِ مالٍ من أجلِ دنيا لا تَبقَى بل ستَفْنَى ويذهَبُ رونُقها.
يقولُ اللهُ تعالى: ﴿كلا﴾ أي لا ينبغِي أن تكونوا كذلك، لا ينبغِي أن تنشغِلُوا بالدنيا عن طاعةِ الرحمنِ، لا ينبغِي أن تنشغِلوا بالزوجةِ والولدِ والمالِ عن طاعةِ اللهِ ﴿سوفَ تعلَمُون﴾ أي ستعرِفونَ عاقبةَ الانشغالِ عن طاعةِ اللهِ حينَ يأتِيكُم الموتُ.
﴿ثم كلا سوفَ تعلَمون﴾ هذا التكرارُ للتأكيدِ لأنَّه من عادةِ العربِ إذا كانَ الأمرُ مُهِمًّا أن يُأكِّدوهُ بتكرارِ العبارةِ، أي أنكم تعلمونَ عاقبةَ أنشغالِكم عن طاعةِ اللهِ بالمالِ والولدِ والقبائِلِ والمعاشِ والتجارةِ إذا جاءَكُمُ الموتُ.
﴿كلا لو تعلمونَ علمَ اليقينِ﴾ معناه لو تعلمونَ ذلكَ عِلمًا يقينًا لما انشغَلْتُم عن طاعةِ اللهِ، ثم أوعدَهم وعيدًا ءاخرً ﴿لتَرَوُنَّ الجحيم﴾ أي ستَرونَ جهنَّم، ﴿ثمَّ لترَوُنَّها عينَ اليقينِ﴾ أي مشاهدةً.
﴿ثم لتُسْأَلُنَّ يومَئذٍ عن النعيمِ﴾ وهنا أقفُ معَ كلِّ واحدٍ منكم، افتحوا ءاذانَكم تمامًا، أسألُكم سؤالاً تكرَّرَ على مسامِعِنا مراتٍ ومراتٍ، سؤالٌ لكلِّ فردٍ فينَا، لكلِّ إنسانٍ سمعَ هذه الآيةَ وءامنَ بِها وأيقَنَ بالقرءانِ، لو فاجأَكَ عزرائيلُ الليلةَ هل حضَّرْتَ الجوابَ، من منكم يستطيعُ أن يجزِمَ أنَّ عزرائيلَ لن يأتِيَ إليهِ الليلةَ؟ ليسَ فينا من يجزمُ أن عزرائيلَ لن يفاجِئَه الليلةَ بل قد يفاجِئُك ويفاجئُه ويفاجئُ ذاك، كلٌّ واحدٍ فينا مُعرَّضٌ في يومِه وليلتِه لمفاجأةِ عزرائيلَ، وإما أن يقولَ أبشِرْ برحمةِ اللهِ أو أبشِرْ بسخَطِ اللهِ، فمَنْ منكم حضَّرَ الجوابَ للسؤالِ في القبرِ ويومَ القيامة؟ كلُّ واحدٍ يعرفُ كم صارَ عمُرُه إلى الآنَ، كم بقِيَ لكَ؟ لا تدرِي، هل الباقِي أكثرُ منَ الذي راحَ أم أقلُّ؟ لا تدرِي، قد يكونَ الباقِي لحظاتٍ، ثوانٍ، دقائقَ، ساعاتٍ، قد لا تدرِكونَ زوجاتِكم اليومَ، من يدرِي، فحضِّروا الجوابَ، نُسألُ عن كلِّ النعيمِ، عن كلِّ لذاتِ الدُّنيا، عنِ الشرابِ البارِدِ الذي يُرْوِيكَ، عنِ الطعامِ اللذيذِ، عنِ الصحةِ والفراغِ، عن سلامةِ سَمْعِكَ وبصرِكَ، سَتُسْأَلُ عن هذهِ الحواسِّ، هل شَكَرْتَ اللهَ علَيها؟ ليسَ الشكرُ أن تقولَ الحمدُ للهِ فقط، الشكرُ أن تؤدِّيَ ما فرَضَ اللهُ وأن تجتَنِبَ ما حرَّمَ اللهُ. يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن أربع"، اسمَعِ السؤالَ وحضِّرِ الجوابَ، يقولُ عليهِ السلام: "لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن أربع عن عُمُرِه فيما أفنَاهُ وعن جسدِه فيما أبلاهُ وعن مالِه من أينَ اكتَسَبه وفيمَا أنفقَه وعن علمِه ماذا عَمِلَ فيهِ". كلُّ فلسٍ دخَلَ جيبَكَ، كلُّ فلسٍ أكلتَه ستُسأَلُ من أينَ اكتَسَبْتَهُ وفيمَا أنفَقْتَه. فكن من الذين يُحاسِبُونَ أنفسَهم اليومَ ويندمُونَ على ما عملوا من الذنوبِ والخطَايا واستعمِلوا هذا المالَ فيما بُرضِي اللهَ تعالى.
إخوانِي اغتنمُوا الخيراتِ في هذهِ الأيامِ القلائلِ للأيامِ الطويلةِ، وءاثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى، المالُ الذي ننفِقُه في سبيلِ اللهِ هذا الذي يبنفَعُنا لآخرتِنا ليسَ ما نصرِفُه لملذاتِنا وشهَواتِنا وملذاتِ أولادِنا بلا نيةٍ حسنةٍ، والملائكةُ تدعُو لمن يُنفِقُ مالَه في سبيلِ اللهِ كلَّ يومٍ. روى البخاريُّ ومسلمٌ أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما مِنْ يوم يُصبِحُ العبادُ فيهِ إلا ومَلَكانِ ينـزِلانِ فيقولُ أحدُهُما اللهمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ويقولُ الآخرُ اللهمَّ أعطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" قالَ صلى الله عليه وسلم: "قالَ اللهُ تعالَى: أنفِقْ يا ابنَ ءادمَ يُنفَقْ عليك" تفكَّروا في هذا واصرفوا مالَكم في سبيلِ اللهِ قبلَ فجأةِ الموتِ. وإن أنتم تخلَّيْتُم يا أهلَ الغَيرةِ والإحسانِ فمن يتقدَّمُ لهذا الواجبِ،. فكرُوا أنكم ستنـزِلون يومًا إلى القبرِ وستفارِقونَ هذه الدنيا وستُفارِقونَ ما لكم فيها من متاعِ الدنيا فإياكم أن تكونُوا ممن يندَفِعُ إلى الدنيا ويعرضُ عن الآخرةِ واللهُ تعالى يقولُ: ﴿وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور﴾.
وتذكَّروا أنَّ ابا بكر تصدقَ بكلِّ مالِه وأنَّ عمرَ تصدَّقَ بنصفِ مالِه وأن عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ كانَ يُسمَّى الفياضَ لكثرةِ جُودِه وسخائِه وكرمِه. وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أنفِقْ بلالُ ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إقلالاً" أي الفقر.
تصدَّقُوا فإنَّ المالَ مالُ اللهِ فهل من مُشمِّرٍ للجنةِ مستعدٍ للآخرةِ فإنَّ الجنةَ لا مثلَ لَها، تصدقوا فإنَّ المالَ مالُ اللهِ والله تعالى يقول: ﴿مثَلُ الذينَ يُنفقونَ أموالَهم في سبيلِ اللهِ كمَثَلِ حبةٍ أنبَتَتْ سبعَ سنابِلَ في كُلِّ سنبلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يُضاعِفُ لمن يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ﴾. هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم.
الخُطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ. عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ.
الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فِيها إلا ذِكرَ اللهِ وما والاهُ وعالِمًا ومُتعَلِّما. إخوانِي الدنيا غرارةٌ فتانَة تضحَكُ على أهلِها، من مالَ عنها سلِمَ منها ومن مالَ إليهَا بُلِيَ فِيها هي كالحيةِ لَيِّنٌ لمسُها وقاتِلٌ سمُّها لذاتُها سريعةُ الزوالِ وأيامُها تمضِي كالخيالِ فاشغَلْ نفسَك فيها بطاعةِ اللهِ، ولا تغفَلْ عن حسابِ نفسِكَ فربُّنا يقولُ: ﴿إن اللهَ كانَ عليكم رقِيبًا﴾ ولا تبخَلوا بالصدقةِ في سبيلِ اللهِ، فالصدَقةُ دواءُ المرضى، داوُوا مرضَاكم بالصدقةِ، ما نقصَ مالٌ منْ صدقةٍ، والصدقةُ تدفَعُ البلاءَ فادفَعوا يدفعِ اللهُ عنكُم البلاءَ واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدَنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الناسُ اتقـوا ربَّكـم إنَّ زلزلةَ الساعةِ شىءٌ عظيمٌ يومَ ترونَها تذهَلُ كلُّ مرضعةٍ عما أرضَعت وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملَها وترى الناسَ سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذابَ اللهِ شديد﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنّا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون .اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.