أَفَضَلُ الصَّدَقَةِ فى أَفْضَلِ شَهْرٍ
Click here to listen to this Article in English The Best Charity in the Best Month
الحمد لله يُحبُّ من عباده المخلِصين* والصلاة والسلام على سيدِنا محمَّدٍ سيّدِ أنبيائه المُخلَصين* وعلى ءاله وصحبِه ومَن كانوا على الاقتداء به حريصين* وبعد، عبادَ الله اتقوا الله.
قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة ٢٨٤).
قال رسولُ الله ﷺ: “أفضلُ الصدَقةِ أن يتعلَّمَ المسلمُ علمًا ثم يُعلّـِمَه أخاه المسلمَ.” رواه ابنُ ماجه.
لقد بـيَّـنَّـا لكم فى بعض الخُطب السابقة فضلَ العلم الشرعىّ وفضلَ أهله من العلماء. وبـيَّـنَّـا أنَّ للعلماء درجةً عاليةً عند الله وأنهم هم الذين يخشَون اللهَ حقَّ الخَشية. وذكَّرْنا أن العلمَ لا بد من أن يُطلبَ من مَظَانّـِه أى من أهلِه أى ممَّن ثبتت أهليتُه وظهرت ديانتُه، وأنه يَحرُم على المسلم أن يَستفتِىَ الفُسَّاقَ الجهلةَ فى أمر الدين.
وكذا فطالب العلم له مقامٌ عالٍ حيث إنَّ الملائكةَ يضعون أجنحتَهم له تواضُعًا راضِين عمَّا يصنَع. ولا بد لنا فى هذا الموقف أن نبيّـِنَ لكم أن طالبَ العلم مأجورٌ على طلبه العلم إن كان طلبُه مخلصًا لله ولم يُرِدْ به الشهرةَ أو كسبَ المال. والإخلاص هو العمل بالطاعة لله وحده.[1] فمن طلبه لغير الله أو طلبه لله وغيرِه ومن طلبه لدنيا يصيبها فهذا مُراءٍ مرتكبٌ للكبيرة محرومٌ من الثواب المذكور فى النصوص الشرعية. ويصدق فيه حديث رسول الله ﷺ: "رُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهرُ. ورُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ"[2] رواه ابن حِبَّان.
ولكى يستفيدَ طالبُ العلم لا بد له بعد الإخلاص من صفات، منها صفتان ذكرهما الإمامُ التابعىُّ الجليلُ مجاهدُ بنُ جَبْرٍ (ت ١٠٤ هـ) تلميذُ ابن عباس حَبرِ القرءان رضى الله عنهم: “لا ينالُ العلمَ مُستحٍ ولا مُستكبِرٌ.” فالمُستَحْيِى لا يَسألُ عمَّا لا يفهم فلا يحصُل له علمٌ. والمستكبِرُ لا يرضَى أن يتعلَّمَ من غيره ولا يعترفُ بعدم فهمه فلا يحصُل له علمٌ كذلك. وإنما يحسُن بطالب العلم أن يتواضعَ لله فى طلبه. فمن تواضع لله رفعَه. ولا بد له من سؤال أهل العلم عنه. والسيدة عائشةُ رضى الله عنها ذَكرت فيما رواه البخارىُّ: “نِعمَ النساءُ نساءُ الأنصارِ. لم يمنعْهُنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ فى الدين.” مدحتْهُن لعدم حيائهن فى الاستفسار عن أحكام غُسل الجنابة.[3]
ولا بد من الصبر على مشاقّ طلب العلم. فالعلماء سافروا إلى أماكنَ بعيدةٍ طلبًا للعلم، وتحمَّلوا مشاقَّ السفر ومخاطرَه وتكاليفَه، وصبروا على الجِدّ فيه. فكانوا يصرفون أيامَهم ولياليَهم فى مذاكرته. كلُّ ذلك لمعرفتِهم قيمةَ هذا العلم. فهو المُنْجِى يوم القيامة من عذاب أليم، وهو الكافل بالسعادة يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنونَ إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليم أى بقلب خالٍ من الشرك. وقد علِموا أن الصبرَ على طاعة الله أهوَنُ من الصبر على عذابِه. قال الماوردىُّ (ت ٤٥٠ هـ) فى كتابه أدبُ الدّنيا والدين:[4] “ولقد قيلَ لن يُدرِكَ العِلمَ مَن لا يُطيلُ دَرسَه ويَكُدُّ نفسَهُ. وكَثرَةُ الدَّرْسِ كَدٌّ لا يَصْبِرُ عليه إلا مَن يَرَى العِلْمَ مَغْنَمًا والجَهالَةَ مَغْرَمًا. فيَحتَمِلُ تَعبَ الدَّرسِ لِيُدرِكَ راحةَ العِلْمِ ويَنْفِىَ عنهُ مَعَرَّةَ الجَهْلِ. فإنَّ نَيْلَ العظيمِ بأمرٍ عَظيم. وعلى قَدْرِ الرَّغبةِ يكونُ الطَّلَبُ. وبحَسبِ الرَّاحةِ يكُونُ التَّعَبُ.” اهـ
وبعد تحصيله ينبغى بل يجب على المتعلم أن لا يكتمَ العلمَ عن طالبيه إن كان هذا المطلوبُ من العلم الشرعىّ الواجب ولم يكن غيرُه أى المتعلمِ المسئولِ موجودًا للإجابة. ويكفيه زجرًا حديثُ رسول الله ﷺ: “من سُئِل عن علمٍ فكَتَمَه أَلْجَمَهُ اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامة.” رواه أبو داودَ والترمذىُّ وقال حديث حسن. أقول قولىَ هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.
الحمد لله يُنعِم على من يشاء بما يشاء* والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ أفضلِ أهل الأرض والسماء* وعلى ءاله وصحبه وكل العباد الأتقياء* أما بعد عبادَ الله اتقوا الله.
إنَّ جمعيةَ المشاريع الخيرية الإسلامية أُنشئتْ لتنفيذ تعاليم القرءان وتعظيم تعاليم الإسلام ونشرِ علومه خاصة العلمِ الشرعىّ الواجب. فلا يظنَّنَّ ظانٌّ أن كلمة "الخيرية" هى لمساعدة الفقراء والمحتاجين فقط، بل يتعدَّى ذلك إلى حمل هذا العلم الشرعى ونشره. وحديثُ رسول الله ﷺ: “أفضلُ الصدَقةِ أن يتعلَّمَ المسلمُ علمًا ثم يُعلّـِمَه أخاه المسلمَ.” كاف لنا فى تعلم الشرع ثم تعليمه. فلا مُعلّـِمَ إنْ لم يُحصّـِلِ العلمَ كما ينبغى. روى الحافظ ابنُ عبد البَرّ (والطبرانىُّ بلفظ قريب) قوله ﷺ: “مَن غَدَا إلى مسجدٍ لِيُعَلّـِمَ خيرًا أو يتعلَّمَه كان له أجرُ حَجَّة وعُمرة.” وقال بعضُهم عن العلم:[5] “أوَّلُ العلم الصمتُ، والثانى الاستماعُ، والثالثُ الحفظُ، والرابعُ العملُ،[6] والخامسُ نشرُه.”
واليوم ونحن فى العُشر الأخير من رمضان يجدر بنا أن نبادر إلى طلب العلم وتعليمه. وكذلك يجدر بنا التأسّى برسول الله ﷺ: “كان رسولُ الله ﷺ إذا دَخَلَ العَشْرُ أحيَا الليلَ، وأيقَظ أهلَه، وشَدَّ مِئزَرَه.” رواه البخارىّ ومسلم.
جعلنا الله وإيَّاكم ممن طلَب العلم إرضاءً له سبحانه ويسَّر لنا جميعًا تلقّيه من أهله ووفقَّنا إلى العمل بمقتضاه ثم إلى نشْرِه كما أمَر. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
أُعطيت هذه الخطبة فى مركز فيلادلفيا ٢٦ ءاب ٢٠١١ (٢٦ رمضان ١٤٣٢ هـ)
[1] قال فى الزبد ١٨: فَصَحّـِحِ النّـِيَّةَ قبلَ العَمَلِ وَائْتِ بها مَقرونةً بالأوَّلِ
[2] لا يستفيد المصلّى من قيامه والصائم من صيامه إمَّا لأنه غير مسلم، أو غير مخلص، أو غير عالم بأحكام هاتين العبادتين.
[3] عن أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبى طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إن اللهَ لا يستحيِى من الحقّ. هل على المرأة من غسل إذا هى احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء. رواه البخارىّ.
[4] Imam Al-Mawardiyy said in his book Adabud-dunyawad-din: "It was said that the one who does not study at length and does not toil will not obtain knowledge. Studying for a long time is toil with which no one will be patient except the one who regards knowledge as gain and ignorance as loss. One will bear with the labor of studying to achieve the relaxation of knowledge and to negate of oneself the disgrace of ignorance. Verily, the achievement of a great matter is done through a great matter. Seeking is proportional to desire. Toil will be in accordance with the (sought) relaxation."
[5] يُرْوَى عن سفيان الثورِىّ رحمه الله (ت ١٦١ هـ).
[6] قال الإمام أبو إسحق الشيرازىّ الشافعىّ (ت ٤٧٦ هـ): علمتَ ما حَلَّلَ اللهُ وحَرَّمَهُ فاعْمَلْ بِعِلْمِكَ إنَّ العِلمَ بالعَمَلِ
ويُروَى عن سفيان الثورى (وغيره) أنه قال: يَهتِف العلمُ بالعَمل. فإن أجابه وإلا ارتحل.