Friday, 29 March 2024
A+ R A-

المعراجِ وتنـزيهِ اللهِ عنِ المكانِ

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا نِدَّ له وأشهد أن سيدنا وحبيـبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وحبيـبه صلى الله عليه وعلى كل رسولٍ أرسله. من بعثه الله رحمةً للعالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرًا بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا من أنبيائه.

أما بعد فيا عباد الله أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العلي العظيم يقول الله تعالى في محكم التنـزيل : ﴿لقَد أرسَلْنَا رُسُلَنا بالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْطِ سورة الحديد / 25.

أيها الإِخوة، كُنَّا قد تكلَّمْنَا فِي الجمعةِ الماضِيَةِ عَنْ رحلَةِ الإِسراءِ بِنَبِيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما رأى فيهَا مِنَ العَجائِبِ. أمَّا اليومَ فكلامُنا بإِذنِ اللهِ ربِّ العالَمِينَ عن معراجِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ عن معراجِ سيدِ المرسَلِينَ وحبيبِ ربِّ العالمينَ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

فالمعراجُ ثابتٌ بنصِّ الأحادِيثِ الصَّحيحَةِ وأمَّا القرءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عليهِ نصًّا صريحًا لكن ورَدَ فيهِ ما يَكادُ يكُونُ نصًّا صَرِيحًا.

يقولُ اللهُ تعالَى في القُرءانِ الكَريمِ: ﴿ولقَدْ رءَاهُ نَزْلةً أخرَى، عندَ سِدْرَةِ الْمُنْـتَهَى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوَى سورة النجم / 13ـ15. ويقولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "ثُمَّ عرجَ بِنَا إلَى السماءِ فاستَفْتَحَ جبريلُ فقيلَ من أنتَ. قالَ جبريلُ. قيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحمدٌ. قيلَ وَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ؟ قَالَ قد بُعِثَ إليهِ.

وهنا تنبيهٌ إخوةَ الإيمان، إنَّ معنَى "وَقَدْ بُعِثَ إليهِ" هل طُلِبَ لِلعُروجِ وليسَ معناهُ أنَّ الملائِكَةَ يسألونَ هل نَزَلَ عليهِ الوَحْيُ أَمْ لا لأنَ الملائِكَةَ يعلَمُونَ أَنَّ محمدًا خاتَمُ الأنبياءِ وكانُوا يَعلَمُونَ أنهُ قد نَزَلَ عليهِ الوحيُ. يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنا بآدَمَ عليهِ السلامُ" فرحَّبَ بالنبِيِّ ودعَا لَهُ بخير. ثم رأَى في السماءِ الثانيةِ ابنَيِ الخالَةِ عيسَى ويَحْيَى وفي الثالِثةِ رأى يوسفَ الذي أُعطِيَ نِصفَ الجمالِ أي الجمالِ الذِي وُزِّعَ بَيْنَ البَشَرِ نُصْفُه كانَ بِيُوسُفَ. وفي الرابِعَةِ رأَى إدرِيسَ وفِي الخَامِسَةِ رأَى هَارُونَ وفي السَّادِسَةِ رأَى مُوسَى وفي السَّابِعَةِ رأَى إبراهيمَ وكانَ يُشْبِهُ سيدَنا محمدًا من حيثُ الخِلْقَةُ وكانَ مُسْنِدًا ظهرَهُ إلى البيتِ الْمَعْمُورِ وَهُوَ بيتٌ مُشَرَّفٌ فِي السَّماءِ كَمَا أَنَّ الكعبةَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ فِي الأَرضِ.

وهذا البيتُ يدخُلُهُ كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ فيهِ ثُمَّ يَخْرُجونَ مِنْهُ وَلا يَعودُونَ إليهِ.

وَرُفِعَ صلى الله عليه وسلم إلى سِدرَةِ الْمُنْـتَهَى وهي شَجَرةٌ عظيمةٌ وبِهَا مِنَ الحُسْنِ ما لا يستطيعُ أحدٌ من خَلْقِ اللهِ أن يَصِفَهُ، وَمِنْ حُسْنِهَا وَجَدَها الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يَغْشَاهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أوراقُها كَآذانِ الفِيَلَةِ وثِمَارُها كالقِلالِ وَهُنَاكَ رَأَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورتِه الأصليةِ يقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في مُحكمِ التنـزِيلِ:﴿ولَقدْ رءاهُ نزلةً أخرَى عندَ سِدرَةِ المنتَهى ويقولُ تعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ فاستَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فتدَلَّى فكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى جِبْرِيلُ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَنَا منهُ فتدَلَّى إليهِ حتى كانَ مَا بَيْنَهُمَا قَابَ قَوسَيْنِ أي قَدرَ ذِراعَيْنِ.

وليسَ الأَمرُ كمَا يَعْتَقِدُ بعضُ الجهَّالِ أنَّ اللهَ دَنَا بِذَاتِه مِنْ محمدٍ فَكَانَ بينَ محمدٍ وبينَ اللهِ كما بَيْنَ الحاجِبِ والحاجِبِ أو بقَدْرِ ذِراعينِ، فهذا كفرٌ لأنَّ فيهِ إثباتَ المسافَةِ للهِ، فالمسافة ُ يُوصَفُ بِها الْمَخْلوقُ أما الخالِقُ سبحانَهُ وتعالَى مَوْجُودٌ بلا مَكانٍ فلا يجوزُ أن يُعتَقَدَ أنَّ اللهَ تعالَى مَوْجُودٌ في مكانٍ أو في كلِّ الأمكِنَةِ أو أنَّهُ موجودٌ في السَّماءِ بِذاتِه أو مُتَمَكِنٌ عَلَى العرشِ أو حَالٌّ في الفَضاءِ أو أنهُ قريبٌ مِنَّا أو بَعِيدٌ عَنَّا بِالمسافَةِ. تعالَى اللهُ وَتَنَـزَّهَ عن ذلك ولا شَكَّ إخوةَ الإيمانِ أنهُ يَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذلكَ والعياذُ باللهِ. أما اعتِقَادُ بَعْضِ الضَّالينَ أنَّ الرسولَ وَصَلَ إلَى مَكانٍ هو مَرْكَزٌ للهِ تعالَى فهذا ضلالٌ مُبينٌ لأنَّ اللهَ موجودٌ بلا مِكانٍ. ولا عِبْرَةَ بِمَا هو مَكْتُوبٌ في بعضِ الكُتُبِ الفَاسِدةِ الكثيرَةِ الانتشارِ وَالذَّائِعَةِ الصِّيتِ التِي فيهَا ما يُنَافِي تَنْـزِيهَ اللهِ عنِ المكانِ والتِي يَتَدَاولُها بَعْضُ العَوَامِّ، والتَّحذِيرُ مِنْهَا وَاجِبٌ وَمِنْها الكِتابُ الذِي عُنوانُه: "كتابُ المعراجِ" المنسوبُ كَذِباً للإمامِ ابنِ عَبَاسٍ فَيَجِبُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ وَمِنْ أمثالِهِ.

فمَا المقصودُ مِنَ المِعراجِ إذاً، تشريفُ الرسولِ بإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبِ العَالَمِ العُلْوِيِّ، وتعظيمُ مكانتِهِ صلى الله عليه وسلم. ومن عجائِبِ ما رأَى الرسولُ صلَّى الله عليه وسلم في المعراجِ، مالكٌ خازنُ النارِ الذِي لَمْ يَضْحَكْ منذُ خلَقَهُ اللهُ تعالى. والبيتُ المعمُورُ وسِدرةُ المنتَهى والجنةُ التي فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ مِمَّا أعدَّه اللهُ لِلمُسْلِمِينَ الأتقياءِ خَاصَّةً. اللهمَّ توفَّنا وأنتَ راضٍ عَنّا يا ربَّ العالمينَ. ورأَى أعظمَ مخلوقاتِ اللهِ من حيثُ الْحَجْمُ رأَى العَرْشَ المجيدَ وَلَهُ قوائمُ كقوائِمِ السريرِ يَحْمِلُه أربعَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الملائِكةِ ويومَ القِيامةِ يَكونُونَ ثمانِيَة وَقَدْ وَصَفَ الرسولُ أحدَهم بأنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ مسيرة سبعِمائةِ عَامٍ بِخَفَقَانِ الطَّيرِ الْمُسرِعِ. والكُرْسِيُّ بالنِّسبَةِ للعَرْشِ كحَلقَةٍ في أَرْضٍ فلاةٍ قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ: " مَا السَّمواتُ السبعُ في جنبِ الكرسِيِّ إلا كَحلقةٍ في أرضٍ فلاةٍ، وَفَضْلُ العَرْش ِعلى الكرسِيِّ كَفَضْلِ الفَلاةِ على الحَلقةِ ".

والعرشُ أولُ مَخْلوقَاتِ اللهِ بعدَ الماءِ ثمَّ القَلَمُ الأعلَى ثُمَّ اللوحُ المحفوظُ، ثم بعدَ أن كَتَبَ القَلَمُ علَى اللوحِ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ وَالأرضَ.

وبعدَ رُجوعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مِنَ المعراجِ أخبَرَ الكفَّارَ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَاسْتَهْزَؤوا بِهِ فتَجَهَّزَ ناسٌ من قريشٍ إلى أبي بكرٍ فقالُوا لَهُ: "هَل لَكَ في صاحِبِكَ يزعُمُ أنهُ قد جاءَ بيتَ المقدِسِ ثم رجَعَ إلى مَكَّةَ في ليلةٍ واحِدَةٍ"، فقالَ أبو بكر: "أَوَ قالَ ذلكَ ؟ قالُوا: نَعم، قالَ: "فَأَشْهَدُ لَئِنْ كانَ قَالَ ذلكَ لقد صدقَ" قالُوا: "فَتُصَدِّقُه بأَنْ يَأْتِيَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَرْجِع إلى مكةَ قبلَ أَنْ يُصْبِحَ ؟ قالَ: نَعم إنِّي أُصَدِّقُه بأبعَدَ مِنْ ذلكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ. فَبِهَا سُمِّيَ الصِّدِيقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وجَمَعَ أَبُو جهلٍ قَوْمَهُ فَحَدَّثَهُمُ الرَّسولُ بِمَا رَأَى، فقالَ قَوْمٌ منهم مِمَّنْ كانَ قَدْ سَافَرَ إلَى ذلكَ البَلَدِ وَرَأَى المسجِدَ ، أَمَّا النَّعتُ (أيِ الوصفُ) فَقَدْ وَاللهِ أصابَ.

يـا صــاحِبَ الْمِعراجِ فوقَ المنتَهى لَـكَ وَحْـدَكَ الْمِعْراجُ وَالإِسْــــرَاءُ

يا وَاصِــفَ الأَقْصَـى أَتَيْتَ بِوَصْفِهِ وَكَــأَنَّكَ الرَّسَّـــامُ وَالبَنَّــــاءُ

اللهمَّ اجْمَعْنَا بِحَبِيبِكَ محمدٍ في الفِرْدَوسِ الأَعلَى وَدَاوِنَا يَا رَبَّنا بِنَظْرةٍ مِنْ جَنَابِهِ الشَّريفِ وارزُقنا شربةً من يدِهِ الشَّريفَةِ لا نَظْمَأُ بعدَهَا يَا رَبَّ العالمينَ. هذا وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلكم.

الخطبة الثانية:

إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.

أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ. واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فبجاه محمّد استجبْ لنا دعاءَنا، اللهم بجاه محمّد اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

Search our site