Thursday, 28 March 2024
A+ R A-

الرَّحْمَة والتَّراحُم

الله أكبر (٩ مرات)*

الحمدُ لله مُنَزّلِ العاديات والقارعة* الَّذِى مَنّ علينا بهذه الصبيحة المباركة اللامعة* والصلاة والسلام على سيّـِدنا محمّدٍ ذِى الأنوار الساطعة* وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين وكل تقىّ فى أرض الله الواسعة*

أما بعد، عباد الله فإنى أوصيكم ونفسىَ بتقوى الله العظيم والسير على خُطا نبيه الكريم وأستفتح بالذى هو خير. وإن خيرَ الكلام كلامُ الله: ﴿ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمّـِىَّ ﴾ (الأعراف ١٥٦-١٥٧) ، أى أنَّ رحمةَ الله (المنفعةَ من الله) وسِعَت فى الدنيا كلَّ مسلم وكافر. لكن فى الآخرة سيكتبها الله للذين يتقون، أى يخصها لمن اتَّقى الشركَ وسائرَ أنواع الكفر . فالله تعالى يختص من شاء برحمته فضلا منه، وينتقم ممن يشاء بعذابه عدلا منه.

ورحمةُ الله وسعت فى هذه الدنيا كلَّ الخلق، حتى إن البهيمة لها رحمةٌ وعطف على ولدها. روى البخارىُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ. فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا. فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.” قال ابن أبى جَمرة: خُصَّ الفَرسُ بالذّكْر لأنها أشدُّ الحيوان المألوف الذى يُعايِن المخاطَبون حركتَه مع ولده، ولِمَا فى الفرَس من الخفة والسرعة فى التنقل، ومع ذلك تتجنب أن يصل الضررُ منها إلى ولدها. اهـ

وحث الرسول على الرحمة ورغَّب فيها فقال: “الرَّاحِمون يرحمُهُمُ الرحيمُ. ارحَموا أهلَ الأرض يَرْحَمكُم أهلُ السماء.” أى الراحمون لمن فى الأرض من ءادمىّ وحيوان لم يؤمر بقتله بالشفقة عليهم والإحسان إليهم يرحمهم الله أى يحسن إليهم ويتفضل عليهم. وهذه الروايةُ أوردها الحافظُ العراقىُّ فى أماليهِ بإسناد حسن. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "ارحموا أهل الأرض" معناه بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التى هى سببٌ لإنقاذهم من النار وبإطعامِ جائِعِهم وكِسوةِ عاريهم ونحو ذلك. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "يرحمكم أهل السماء"، فأهلُ السماء هم الملائكة وهم يرحمون من فى الأرض أى أن الله يأمُرُهم بأن يستغفروا للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَالمَلائِكَةُ يُسَبّـِحُونَ بِحَمْدِ رَبّـِهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الأَرْضِ ﴾ (الشُّورى ٥)، وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّـِحُونَ بِحَمْدِ رَبّـِهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (غافر ٧)، ويُنـزلون لهم المطر ويَنفَحونهم بنفَحاتِ خيرٍ ويُمِدُّونهم بمَددِ خيرٍ وبركة، ويحفظونهم على حسبِ ما يأمرهم الله تعالى.

فليست الرحمة فقط بأن أُطعمَ الجائع! وليس من الرحمة فقط أن أكسوَ العارىَ وأساعدَ المحتاج! وليس من الرحمة فقط أن أسهرَ على أولادى إذا مرضوا! وليس من الرحمة فقط أن أؤمّن لأهلى وعيالى الطعام والشراب والمسكن! بل من الرحمة أيضًا أن أرشدهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التى تنجيهم يوم القيامة.

وهذا الحديث رواه الترمذىُّ أيضا بلفظ : "الراحِمونَ يرحمُهم الرحمنُ. ارْحَموا مَنْ فى الأرض يرحمكُم مَن فى السماء." ومعنى هذا الحديث مفسَّرٌ بالرواية السابقة لهذا الحديث: "ارحموا أهلَ الأرض يرحمْكُم أهلُ السّماءِ." رواه الإمام أحمد وصحَّحه الحاكم (بشواهده). فهذه الروايةُ تُفسّـِرُ الروايةَ الأولى لأنَّ خير ما يُفسَّر به الحديثُ الواردُ بالواردِ، كما قال الحافظ العراقىُّ فى ألفيَّته: وخيرُ ما فسرتَه بالوارد.

ثم المرادُ بأهل السماء الملائكة. ذكر ذلك الحافظ العراقىّ فى أماليهِ عقيبَ هذا الحديث. ونص عبارته: واستُدِلَّ بقوله: “أهلُ السماء” على أنَّ المرادَ بقوله تعالى فى الآيةِ: ﴿ ءأَمِنتُم مَن فى السماء ﴾ الملائكة. اهـ، لأنه لا يقال لله "أهل السماء". فالله منـزه عن التحيز فى الجهات، لا يسكن جهة تحت ولا جهة فوق ولا جهة أمام ولا خلف ولا جهة يمين ولا شمال. بل هو موجود بلا مكان .

إخوة الإيمان، إن الله تعالى سـمَّى القرءانَ رحمة فقال: ﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّـِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النمل ٧٧) وسـمَّى نبيَّنا ﷺ رحمة فقال: ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ ﴾ (التوبة ٦١). فارحموا بعضكم وتراحموا فيما بينكم ، فقد قال جل شأنه: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾. (الفتح ٢٩)‬. وروى البخارىُّ رضى الله عنه فى كتاب الأدب باب رحمة الناس للبهائم عن النبىّ ﷺ: "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم". فكم هو عظيم أن نذكّر بعضَنا بعضًا فى هذه الصبيحة المباركة بالتراحم.

فمن الرحمة والتراحم أن تبـَرَّ والديك المسلمَين. فبِرُّ الوالدَين طاعة عظيمة قد تُرزق بها. قال ربنا تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ﴾ (الإسراء ٢٤). والوالدان الصالحان من النّـِعم التى لا تُعرف إلا بعد فقدانها. فقد قال شيخنا العبدرىُّ رضى الله عنه وأرضاه : "أطِعْ أبوَيكَ ولو غرِقتَ فى بحرٍ من المكروهات". فطالما لم يأمراك بالحرام أطعهما. حتى بعد موتهما تستطيع أن تبَرَّهما بالدعاء والاستغفار لهما وبالتصدق عن روحهما وبزيارة قبريهما ونحو ذلك.

ومن الرحمة أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. فبهذا ترحم الأمة. وهذا ليس شَقًّا لصفّ المسلمين. فإن السكوتَ عن الأمرِ بالمعروف والنهىِ عن المنكر لغير عذر حرام. وقد يعُمُّ اللهُ الناسَ بسببه بالبلاء. فقد روى البخارىُّ عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِىّ قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ (المنكِرِ لنواهى الله القائمِ فى دفعها وإزالتها) وَالْوَاقِعِ فِيهَا (مرتكبِها) كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ (فأخذ كل واحد منهم سهمًا أى نصيبًا من السفينة بالقُرعة بأن تكون مشتركةً بينهم إما بالإجارة وإما بالمِلك) فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا. فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ (فتأذَّوا هؤلاء بالمارّ من أسفلَ عليهم بالماء حالةَ السَّقْى). فَقَالُوا (الذين فى الأسفل): لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ (الذين هم فوق) وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا (كلٌّ من الآخِذين والمأخوذين. وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصى بالمعصية والساكتُ بالرّضَى بها)." رواه البخارىّ.

هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.

اللهُ أكبر (٧ مرات)*

الحمد لله أوحى إلى عبده إبراهيم ما أوحى* والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ فى صبيحة الأضحَى* وعلى ءاله وصحبه وتابعيه ومن اتَّقَى وَضَحَّى* أما بعد عباد الله، أوصيكم بتقوى الله العلىّ العظيم.

أحبائى، نحن اليوم فى فرحة شاملة ونعمة جامعة فى عيد الأضحى المبارك، عيد التضحية والفداء، عيد البَذل والسخاء. إن هذا اليومَ من أعظم أعيادنا وأجلّ مواسمنا.

فالله رَحِمَ ءالَ إبراهيمَ فافتدَى إسماعيلَ بذِبْحٍ عظيم. فصارت الأضحية من القُربات. هى سُنَّةٌ متبعةٌ وشعيرةٌ محكمةٌ. والأصل فيها أى الدليل قوله تعالى: ﴿ فصَلّ لربّـِكَ وانْحَرْ *﴾ أى صلّ صلاةَ العيد وانحرِ النُّسُك (الأضحية). ووقتها من بعد صلاة العيد إلى ءاخر أيام التشريق. ويُسنُّ توزيعُ ثلثِها على فقراء المسلمين وإهداءُ ثلثها وأكلُ ثلثها. ويسن التكبير خلف الصلوات المكتوبة من صبح يوم عرفة إلى ءاخر وقت العصر من ءاخر أيام التشريق.

وءالاف المسلمين اليوم يؤدون فريضة الحج وهم على اختلاف طوائفهم يجمعهم الإيمان بالله وأنبيائه. ومن حج منهم حجا مبرورا خاليا من الفسق رجع خاليا من الآثام كيوم ولدته أمه.

فحرىٌّ بنا فى العيد أن نطيع ربَّنا بطلب العلم الواجب وأداء للصلوات المفروضات وباقى الواجبات وباجتناب المعاصى كلها. هذا يجعلنا جميعا على قلب رجل واحد معتصمين بحبل الله كما أمر الله.

ويستحب التوسعةُ على الزوجة والأولاد والأقارب وزيارتُهم، ومصالحةُ الخصوم من المسلمين. ولنذكر إخوانَنا المؤمنين فى مختلف بقاع الأرض الذين يتعرضون للقتل والهدم والإخراج من بيوتهم.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

نسأل الله أن يعيدَ هذا العيدَ علينا وعلى المسلمين بالخير والبركة.

فلادلفيا الأضحى ١٤٣١ هـ - ١٦ ت٢، ٢٠١٠ ر

Share this post

Submit to DiggSubmit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to StumbleuponSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

Search our site

Listen to the Qur'an

Click

كيف يدخل غير المسلم في الإسلام

يَدخل غيرُ المسلم في الإسلام بالإيمان بمعنى الشهادتين وقولِهِما سامعًا نفسَه بأيّ لغةٍ يُحسنها.

وإن أراد قولَهما بالعربية فهما:

أَشْهَدُ أَنْ لا إلَـهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله

وَهَذا هو التسجيل الصوتي للشهادتين اضغط

A.I.C.P. The Voice of Moderation